أم كلثوم في رواية علوية صبح
سيد محمود
آخر تحديث:
الثلاثاء 7 مارس 2023 - 9:00 م
بتوقيت القاهرة
تلعب كوكب الشرق أم كلثوم دورا مركزيا فى رواية (افرح يا قلبى) للروائية اللبنانية علوية صبح (دار الآداب 2023 ) ومن خلال أغنياتها وحضورها يمكن تأمل الكثير من الوقائع والأحداث والشاهد أن النص كله تحية كبيرة لمصر وثقافتها التى تتمدد فى داخل النسيج الروائى وتبدو مثل خيط حريرى يلضم الكثير من الصور والمشاهد المطرزة بعناية فائقة.
تتداخل فى الرواية الأصوات الحميمة التى كانت مرجعية لجيل تمثله الكاتبة، فمع صوت أم كلثوم الذى يتدفق بمياه جديدة، هناك أصوات أخرى مثل عبدالحليم حافظ وشادية وسعاد حسنى، تأتى مقترنة بالأحلام التى جسدها صوت جمال عبدالناصر المتفرد فى حضوره.
ما يشغل علوية صبح حقيقة داخل النص أكثر من إيمانها الشخصى بالقومية العربية هو تأمل هذا التراجع والنظر فى مظاهر الفجيعة مع تفشى الأصوليات وازدهار التعصب، حيث يسير العالم كله على الخوف والقلق.
نتابع سيرة البطل غسان الذى توجه إلى أمريكا لاستكمال دراسة الموسيقى بعد أن قتل شقيقه جمال خلال الحرب اللبنانية ويمر هناك بأكثر من اختبار لامتحان هوياته المتعددة ويعود لما احتفظت به ذاكرته من وقائع وذكريات تشير إلى أن جميع من عايشهم فى بلدته «دار العزة» مرورا بتناقضات شبيهة ولم يتجاوز محنتهم أبدا بحيث ظل سؤال الهوية يطرح نفسه بصورة أو بأخرى، فالمكان الأول متناقض فى هويته لا هو قرية ولا هو مدينة، والأب صورة متكررة لسى السيد بطل نجيب محفوظ، ومثله يمارس تسلطه داخل البيت بينما يحيا حياة لاهية خارجه، ومثله أحب امرأة هى جيهان وتزوجها ابنه محمود، لكنه لم يعترض فلا هم له سوى كسر زوجته التى كانت قبل زواجها منه تحب جارها المسيحى.
أنجب الأب الكثير من الأولاد لكنه ظل يعايرها ويضربها ولم يكن يتحول إلى إنسان مسالم إلا تهيبا لابنه الكبير وتحت فائض من النشوة يمنحه صوت أم كلثوم
لم يتوقف جبروت الأب إلا مع مقتل ابنه الذى تشرد بعده أفراد الأسرة فهرب الابن سليم من البيت بهوية جنسية مضطربة وسافر طارق للعمل كمصور حرب لوكالات أجنبية لا هم لها سوى إحصاء القتلى وبقى عفيف أصوليا متعصبا وعاش محمود مع عشيقة أبيه فى بيت العائلة ممزقا بين حب جيهان وبين محبته لأبيه الذى عاش فى ظله وحاول تقليده.
تنشغل علوية صبح الروائية الكبيرة بهذه التناقضات وتفسرها انطلاقا من مقولات إدوارد سعيد الذى يبدو هو الآخر كمؤلف ضمنى لهذا النص.
سافر البطل غسان إلى نيويورك بتحريض من صديقه سعيد الذى يتماهى سلوكه مع النساء مع شخصية مصطفى سعيد بطل رواية «موسم الهجرة إلى الشمال» للطيب صالح فقد أراد أن يعيش تجربته مثل فحل جنسى متعطش لغزو الغرب!
أحب غسان كيرستين الأكبر منه فى العمر بعد أن بهرته بعشقها للصوفية ومعرفتها الدقيقة بالموسيقى الشرقية وهى معرفة اكتسبتها من صديقها الذى خانته مع غسان واعترفت له بذلك ثم جاءت لتعيش مع غسان قبل أن تغمره موجة من الأصولية المقيتة تقوده إلى التعصب لما يظن أنها هويته دون أن يفرق بين الأصالة والتعصب.
ينجو غسان ويعود إلى طبيعته وهو جائع إلى صوت أم كلثوم الذى اكتشفه بفضل جده الذى علمه محبة الموسيقى وساعدته تجربة البحث التى خاضها فى عالم إدوارد سعيد على إدراك أن الفن وحده جدير بأن يكون هو الهوية، أما شقيقه طارق فقد حوصر بالكوابيس التى أنجبتها مشاهد الموت التى صورها ولم ينجُ منها إلا بعدما ترك عمله وصار نادلا فى أحد المطاعم الباريسية.
يودع الأب الديكتاتور العالم ويستدعى أفراد العائلة لوداعه وهنا يعيش غسان رحلة أخرى تعود به إلى «دار العز» من جديد، فقد خاف من أن يعذب بالندم إذا لم يودعه، وآمن أنه لا شىء أقسى من الندم، لذلك عاد بعد أن رأى نفسه فى أحد أحلامه يعزف على العود إلى جوار سرير والده أغنيات لأم كلثوم وهو عاجز ممدد على الفراش فى كامل بدلته العسكرية أيام شبابه، أما شقيقه محمود فلم يقبل أن تشاركه زوجته الحزن على وفاة أبيه وارتد إلى ماضيها مع هذا الأب وتعذب به وتشبث بالشك فيها.
ترسم علوية صبح مشاهد مؤلمة لوداع الأب وتطرزها بمختلف أشكال القسوة والحنين وتمنحنا نماذج لنساء يندر وجودهن فى الأدب العربى وبالذات صورة الأم التى تحتفل باسمها الذى نطقه الزوج لمرة واحدة قبل أن يموت ويكفى تأمل مشاهد قيام الزوجة بتحميم زوجها وإلحاحها على جيهان العشيقة السابقة لهذا الزوج وزوجة ابنه لتشاركها الإمساك به خوفا من أن ينزلق داخل الحمام لكنها تصرعلى أن تسمعه صوت أم كلثوم قبل وداعه، مشاهد ساحرة مؤطرة بألم كبير يفيض من الرواية التى تصل محطتها الأخيرة حين يلتقى غسان بجارتهم (رلى) التى تركها صغيرة فتطلب منه أمه أن يتزوجها لينجب منها الولد وهكذا عاش مع امرأة فى عمر أمه وفتاة فى عمره ابنته لكنه استجاب لإغراء التجربة وأيقظ بزواجه من رلى إحساس الرجل الشرقى بتسلطه وأظهر الرجل الجائع داخله إلى السلطة التى لم يمارسها مع كريستين.
تنجب رلى فتاة يسميها (آية) دون أن يخبر كريستين بحياته الجديدة لكن (رلى) تتحول إلى سيدة سلفية بعد موت أمها (فيوليت) ولهذا السبب يعود غسان إلى لبنان لضم ابنته إليه ليحميها من لحظة «عتمة كاملة» غمرت لبنان.
وتختتم الرواية بخبر موت رلى برصاصة طائشة وهى تنشر الغسيل على الشرفة، أما غسان فيعود إلى نيويورك بطائرة تبدو على وشك السقوط، ربما لأنه لم يحسم تماما صراعه بين هويتين.