الهدنة لا تعنى نهاية صراع
معتمر أمين
آخر تحديث:
الخميس 7 مارس 2024 - 8:40 م
بتوقيت القاهرة
إذا كنا اعتدنا على مشاهدة المجازر اليومية والإبادة الجماعية فى غزة فإن الأمر على وشك التكرار فى جنوب لبنان تليه الضفة الغربية. ذلك أن آلة الخراب الإسرائيلية تريد استعادة قدرتها على «الردع» التى فقدتها يوم 7 أكتوبر، والتى كانت قائمة على منع حدوث هجوم مباغت ضد إسرائيل. وقد تتوسع إسرائيل فى ردها على القوة الإقليمية المعادية لها، عن طريق القيام بعمليات اغتيال ضد قيادات أنصار الله فى اليمن، فى محاولة لترميم صورة الدولة ذات الذراع الطويلة التى تستطيع البطش بكل أعدائها بالمنطقة، على غرار ما تقوم به من عمليات متكررة فى إيران. ولكن ماذا بعد؟
الرأى الغالب لدى معظم المحللين هو إبرام صفقة تبادل الأسرى وبدء سريان الهدنة المؤقتة التى تستمر لستة أسابيع، كافية لاستحواذ تفاعلات شهر رمضان، لعل الشارع الإسرائيلى يتحرك خلالها ليسقط حكومة اليمين المتطرفة، وبالتالى تتحول الهدنة المؤقتة إلى دائمة. وفى هذا الإطار، لا رهان على الإدارة الأمريكية، التى لم ولن تقول «لا» لإسرائيل مهما فعلت. ورئيس الوزراء الإسرائيلى يعرف جيدا أنه يستطيع تحييد الضغوط الأمريكية، كما يعرف أنه يستطيع حشد الداخل الإسرائيلى مادامت دائرة الحرب مستمرة. ولكن لو توقف القتال، فإن استحقاقات ما بعد المعركة ستنال منه، ذلك لأن الداخل فى إسرائيل يتفق على إبادة المقاومة الفلسطينية ومنع حل الدولتين، لكنه لا يتفق على ما يجب فعله فى اليوم التالى للحرب. وقد يشفع لرئيس الوزراء الحالى أمام شعبه، أنه قتل من الفلسطينيين ما لم يسبقه إليه أحد، وحول غزة إلى أرض محروقة لا تصلح للعيش، فى محاولة لطرد وتهجير الفلسطينيين منها بالكامل. لكن العبرة هنا بالخواتيم، فإذا بقى أهل غزة دون ترحيل، وبقيت المقاومة والأنفاق التى تستعملها، فإن موقف نتنياهو سيكون فى منتهى الصعوبة.
●●●
رهان المقاومة فى الموافقة على صفقة الأسرى مشفوع بالعديد من المخاطر، فبموجب عملية التبادل تفقد المقاومة ورقتها الوحيدة للضغط على إسرائيل. وما تبقى بعد ذلك هو مواجهة مع عدو بلا شرف، سيستمر فى ارتكاب الإبادة الجماعية بلا أى رادع إنسانى أو أخلاقى حتى يصل لمبتغاه. ولذلك، مكسب المقاومة الوحيد من وقف القتال المؤقت هو إعطاء فرصة للشعب الفلسطينى لالتقاط أنفاسه، مع دخول أكبر قدر ممكن من المساعدات لأهل قطاع غزة، وتخفيف وطأة الاستهداف فى الضفة. ولا يعنى ذلك أن الهدنة لن يشوبها استهداف إسرائيلى وعمليات قتل إلخ.. وإنما يعنى أن وتيرة القتل اليومى ستعود لمعدلاتها الطبيعية لما قبل حرب 7 أكتوبر إلى حين تجدد القتال. نلاحظ فى هذا السياق أن نتنياهو يحاول تعقيد هذه الصفقة بقدر ما يستطيع، فبعد الاتفاق على إطارها فى مفاوضات باريس فى الأسبوع الأخير من فبراير، عاد ليضيف شرطا جديدا قبل جولة مفاوضات الدوحة لإقرار الصفقة، واشترط إبعاد القيادة الفلسطينية التى سيفرج عنها إلى قطر! وأهم المعنيين بهذا الإبعاد هو مروان البرغوثى أمين سر حركة فتح وقائد الانتفاضة الفلسطينية، وأحمد سعدات الأمين العام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. وإذا وافقت المقاومة على شروط نتنياهو المستحدثة فإنه سيتقدم خطوة، وستتراجع المقاومة خطوات.
●●●
ولنضع تطور صفقة التبادل فى الخلفية ونطرح سؤالا حول ما تعنيه صفقة التبادل بالنسبة لحزب الله. فحكومة اليمين الإسرائيلية توسع نطاق القتال وقصفت محيط مدينة بعلبك فى أقصى شمال لبنان يوم 26 فبراير، ما يعنى أن التصعيد الحذر يتراجع. وقد تكون حكومة اليمين تعمل على تأمين بقائها فى السلطة عبر الانتقال بالكامل إلى ساحة لبنان مع سريان الهدنة المتوقعة فى غزة. وحزب الله بدوره يزيد من استهداف المواقع الإسرائيلية ويزيد من ضرباته فى العمق الإسرائيلى وفى هضبة الجولان لأول مرة. ولكن إلى أى مدى سيذهب حزب الله فى هذه المواجهة؟ نلاحظ هنا أمرين. أولهما، كشفت إسرائيل عن وثائق وجدتها فى خان يونس كتبها يحيى السنوار عن امتعاضه من تقاعس حزب الله عن الهجوم يوم 7 أكتوبر على شمال إسرائيل على غرار ما فعلته المقاومة فى محيط غزة. ولا ندرى ما إذا كانت هذه الوثائق حقيقية أو جزءا من حرب المعلومات التقليدية فى أثناء الحروب. ثانيهما، كشفت فرنسا عن طلب كل من إسرائيل ولبنان توسطها لاحتواء أو لمنع توسيع المواجهة بينهما. ولكن ما هو ثمن التهدئة؟ من وجهة النظر الإسرائيلية هو دفع حزب الله إلى شمال نهر الليطانى، أما بالنسبة لحزب الله فهو وقف القتال فى غزة. فهل يتراجع حزب الله لشمال الليطانى ويهدى حكومة اليمين نصرا محققا فى جنوب لبنان، ليتجنب التصعيد؟ وهل يعتبر ذلك مناورة استراتيجية أم هزيمة استراتيجية؟
●●●
وفى سياق متصل نشير إلى موقف أنصار الله فى اليمن من سريان الهدنة المؤقتة فى فلسطين. فلقد ربط أنصار الله موقفهم بدخول المساعدات إلى داخل غزة ورفع الحصار عن أهلها. ولكن لا مواجهة مباشرة بين أنصار الله وبين إسرائيل، وإنما تقوم الولايات المتحدة وبريطانيا باستهداف أنصار الله، مع تأكيدهما على فصل هذه المواجهة عما يجرى فى غزة، وادعائهما بحماية حركة التجارة العالمية عبر باب المندب. ولذلك تختلف حسابات المواجهة فى اليمن عن باقى الساحات، فقد تستمر المواجهة حتى بعد سريان الهدنة، لا سيما بعد توصيف الإدارة الأمريكية للحوثيين على أنهم جماعة إرهابية. ونلاحظ فى هذا السياق توالى التغييرات الجيوستراتيجية فى محيط باب المندب لاسيما بعد دخول لاعبين جدد للمنطقة، وذلك بعدما وقعت إثيوبيا اتفاقا لاستعمال موانئ أرض الصومال. وبغض النظر عن عدم شرعية هذا الاتفاق لأنه مع حكومة انفصالية غير معترف بها، لكن تجدر الإشارة لأهمية وصول إثيوبيا إلى مضيق باب المندب. فهى تقدم نفسها كقوة محلية حليفة لكل من الولايات المتحدة، وبريطانيا، ومن قبلهما إسرائيل، فى محاولة لضبط التوازن مع أنصار الله فى اليمن. فهل نشهد مواجهة يمنية إثيوبية على غرار المواجهة اليمنية الإريترية التى حدثت من قبل عام 1995؟ علما بأن إسرائيل استفادت من صراع عام 1995 إذ تزعم جماعة الحوثى أن لإسرائيل وجودا فى جزيرة حنيش اليمنية «المحتلة» من قبل إريتريا آنذاك. لكن الأمر المحير أن أنصار الله لم تستهدف تلك القاعدة الإسرائيلية حتى الآن.
الخلاصة، لا تعنى الهدنة انتهاء الحرب، ولا يبدو أن تداعيات حرب 7 أكتوبر انتهت، بل على العكس، يبدو أنها آخذة فى الاتساع. ومهما طال أمد الهدنة فهى مؤقتة، ومهما ظهرت مكاسب آنية لأى طرف، فهى بدورها لحظية، وذلك لأن ما كشفت عنه الحرب أكبر من أى توافق أو تفاهم تم التوصل إليه بين الأطراف المتحاربة. فلقد كشفت أفعال أطراف المواجهة عن نواياها المستقبلية، ما يجعل الهدنة مسألة تأجيل للمواجهة إلى مرحلة لاحقة.