العراب كان نقلة لا مرحلة
حسام السكرى
آخر تحديث:
الأحد 8 أبريل 2018 - 2:31 م
بتوقيت القاهرة
هذا مقال ضائع. سيتلاشى أثره ويضيع وسط طوفان حب وعرفان خلفه رحيل مؤسف للكاتب أحمد خالد توفيق، أو «العراب» كما عرفه محبوه. لم أكن للأسف من قرائه أو المتأثرين بكتاباته. كما أننى لسوء حظى لم أعرفه بشكل شخصى.
التقينا مرة واحدة عقب ندوة كان متحدثا مشاركا فيها عن رسام الكاريكاتير العبقرى الراحل حجازى. لم تكن أفضل ما حضرت من ندوات، وقدرت وقتها أن منظمى الندوة أرادوا الاستفادة من شعبيته بين قارئى الكوميكس فطلبوا منه الحديث، وأبى هو أن يرد طلبهم. بعد الندوة وقفت أمامه فى صف قصير انتظر دورى للتوقيع على العمل الوحيد الذى اقتنيته له: أثر الجرادة. تعرف على، لا لأنه قرأ لى إذ كان من الواضح أنه ليس من القلة التى ربما قرأت بعض ما أكتب، ولكن لأن بعض ما قلته من مقعد الجالس فى الندوة عن حجازى وعن فن الكاريكاتير لفت نظره. سألنى مهتما وتبادلنا حوارا أتبعه بأن طلب منى بأدب بالغ رقم هاتفى لنتابع حوارا وجده شيقا. خجلت من أن أطلب منه رقم هاتفه ومضت الأيام دون أن يهاتفنى أو يحدث لقاؤنا الموعود.
أنتمى إلى القطاع الواسع من الناس الذين أدهشهم كم هذا الحزن عليه. ولكننى بالتأكيد لست من بين من أثار هذا الحزن حفيظتهم أو استياءهم أو ذائقتهم الأدبية ليصدروا حكما بالتفاهة على أجيال كاملة. أدهشنى الحزن وأوغلت فى أسبابه فاحترمت حزن المحزونين وصرت واحدا منهم.
فهم ما حدث لا علاقة له بأية مقارنات بين توفيق وبين غيره من الكتاب. والقول بأن شعبيته مرجعها أنه «كاتب ألغاز» لا يفسر هذا الحزن الجماعى العظيم الذى امتد من مصر إلى دول عربية أخرى. الأستاذ محمود سالم الذى يعتبر صاحب الفضل فى هذا النوع من الكتابة للناشئة إلى مصر. سبق الدكتور توفيق إلى الرحيل إلا أن الأثر لا يمكن أن يقارن.
هناك أسباب متباينة لتفسير انزعاج من انتفضوا بسبب الحزن على الرجل. منهم “دولجية” وجدوها فرصة للمزايدة على حب الوطن بتشويه الرجل الذى كانت جريمته الوحيدة عندهم هو أنه لم ينضم معهم إلى مواكب المهللين للسلطة. ومنهم المثقفون النخبويون الذين أزعجهم أن يخرج الناس عن وصايتهم فيقدرون كاتبا دون إذن منهم. موقف الكارهين لحبه يفسره فى النهاية رعب سلطوى من مجموعات اتفقت مراميها على وجوب ألا يبتهج الناس أو يرقصون أو يحزنون أو يرثون إلا بأمر أو إذن أو توجيه. ما عدا ذلك باطل وربما خيانة.
لم يحظ أحمد خالد توفيق بهذا الكم من الحب بكتابة أعمال أدبية فذة، بقدر ما حققها بقدرة فائقة على إمتاع جيل كامل بكتاباته الشيقة التى غرست فيهم شغف المعرفة وحب الاستطلاع. لم تكن كتابات توفيق مرحلة، بقدر ما كانت نقلة. لم تقدم تسلية وإمتاعا فحسب، ولكنها أخذت بيد جيل كامل أحب القراءة على يديه، وتعرف من خلاله على آفاق جديدة، وثقافات مغايرة، وعوالم مختلفة، وكتاب آخرين. جعلهم هذا أفضل وجعل بعضهم كتابا.
فرد واحد بتواضع مفرط ودأب نادر وإخلاص وحب شفيفين قام بما لم تقم به مؤسسات الدولة دونما مقابل سوى الحب. احترم الرجل قراءه فى كتاباته وفى حياته الخاصة. لم يتعال عليهم أو يفرض أبوية زائفة وقدم نصحا شخصيا لعشرات وربما مئات. لم يحاول أن يغرس فى أذهان الشباب وعيا مفتعلا أو يدس بين سطور قصصه “قيما” شكلية. فعل ما هو أهم وأبقى. أرشد أجيالا كاملة لمتعة تشكيل الوعى وعرفهم على وسائل العلم ومناهله.
عشرات الوريقات والرسائل الصغيرة ألصقها محبوه حول شاهد قبره تشى بحجم هائل من العرفان (شاهد بعضها هنا bit.ly/utobia) أختار منها عبارة كتبها أيمن خالد تقول: شكرا يا من أوجد فى قلبى شغف القراءة.
أكثر من ورقة ولافتة أسندها أصدقاؤه على مدخل قبره كتبوا عليها عبارة قيل إنه رغب فى أن تكتب على شاهد قبره “جعل الشباب يقرأون”.
رحمة الله وغفرانه للعبقرى المدهش الصلب الهاديء الرقيق أحمد خالد توفيق