طقوس التمسك بالحياة
تمارا الرفاعي
آخر تحديث:
الأربعاء 7 أبريل 2021 - 8:10 م
بتوقيت القاهرة
أصبح الترحم على الأموات من أكثر العبارات شيوعا فى الفترة الأخيرة، خصوصا على شبكات التواصل الاجتماعى، حتى علقت صديقة بأنها ما أن تكتب كلمة «الله» على أى جهاز حتى يرد الجهاز طواعية «يرحمه»! أى أن أجهزتنا باتت مبرمجة على عبارات المواساة فتظهرها على الشاشة تلقائيا من شدة ما استخدمناها.
***
للعزاء فى دمشق طقوس صارمة، لن أدخل هنا فى تفاصيلها، لكن مع الحياة الافتراضية كما فرضتها الجائحة منذ ما يفوق العام، أعدت التفكير فى هذه الطقوس مع كل خبر عن عزيز أو غريب يرحل. لا أذكر مثلا أى مجالس عزاء كانت تقام خارج البيوت، فجزء كبير من واجب الأسرة تجاه من رحل هو إخراجه من بيته، وإن كانت الوفاة فى مكان آخر فمن الضرورى مرور الموكب أمام بيته والإعلان عن اسمه على مسمع كل الجيران. كما أن تلقى العزاء فى بيت العائلة أمر لطالما كان غير خاضع للنقاش؛ حيث يعد الذهاب إليهم بحد ذاته إكراما لمن رحل ولهم. لذا فحين أستجمع الذكريات أو بالأحرى البصريات المتعلقة بطقوس العزاء، فإننى لا أتذكر مجالس تقام فى صالة عامة أو مكان خارج البيوت حتى لو أننى شبه متأكدة أننى عزيت فى صالات إنما الصورة لا تحضرنى.
***
بالمقابل، أنا أذكر طقوسا قديمة وكأننى حضرتها من قريب، كأن يأخذ الأقارب على عاتقهم فرد موائد الغداء لمدة ثلاثة أيام فى بيت العزاء لكل من يتواجد هناك. الأوزى ملك السفرة، صرة من العجين الرقيق تحتوى على كنز من لحم الخاروف المطهو مع الأرز والبهارات والبازلاء. عجيبة هى هذه الصرة فهى تقدم فى الأفراح والأحزان فى دمشق، وكأنها صرة العواطف بغض النظر إن كانت عواطف فرحة أم حزينة.
***
ها هى أمى فى غربتها تصر على أن تمارس طقسها الدمشقى فى عزاء قريبة لنا توفيت، فتفرد مائدة تتصدرها صرر حشتها أمى بكل مشاعر الحنين والحزن التى تحملها منذ سنوات، منذ أن تركت بيتها فى الشام بسبب الحرب. مارست أمى طقوسا اجتماعية مقدسة فى مجتمعها الأصلى لتعزى نفسها فى مجتمعها الجديد، سواء بسبب رحيل أخيها أو بسبب ما تشعر أنها فقدته فى سوريا.
***
الطقوس الاجتماعية مقيدة وكثيرا ما تحد من قدرة الفرد على الانطلاق والخروج من أطر صارمة. هى طقوس تعيد الفرد إلى المجموعة أحيانا رغما عنه. هى طقوس تعرف عن الفرد من خلال رمز أو شيفرة يفهمها من ينتمى لنفس المجموعة. فى لحظات تشتت الفكر والشعور بالضياع، لجأت أمى إلى طقوس ورثتها كما ورثت اسمها ولهجتها.
***
بالنسبة لى، اكتشفت فى سنوات ترحالى مدى التصاقى ببعض الطقوس التى ربما لم أكن بالضرورة أمارسها من قبل، أشياء بت أفكر فيها وأضعها فى خططى وفى حياتى للدلالة على هويتى. قد تأخذ بعض الطقوس شكلا فولكلوريا يضحك أصدقائى المثقفين المشككين الضليعين بعلوم السياسة والاجتماع. يأخذ الفولكور بعدا أعمق فى قلبى أحيانا وأتعامل مع بعض الطقوس بجدية فى محاولة منى أن أفرضها على عائلتى. أضحك فى سرى حين أتخيل نظرة والدى أو أصدقائى المقربين وأنا أدافع عن ممارسات كنت أنتقدها وأنتقد تمسك الناس بها للتعبير عن الهوية.
***
أظن أن ثمة شعورا بالانتماء أحتاج إليه أحيانا فى أوقات العاصفة. حائط أستند إليه حين يتحرك كل ما حولى، قواعد مألوفة داخل طوفان من عدم الوضوح. أتمسك ببعض الطقوس أو أعيد اكتشافها بشكل أعترف أنه كاريكتورى نوعا ما، فمن يأبه اليوم وبعد عشر سنوات من التغيير والتحدى لأصول استقبال الضيف أو لمائدة أهل فقيد يوم العزاء؟ من يهتم لقواعد لا تقدم ولا تأخر فى المجتمع أو فى الدول؟ هى طقوس للتمسك بالحياة كما أحببتها وكما أصبحت تبدو لى اليوم، من زمانى ومكانى البعيدين كل البعد عن طقوس كرهت كثيرا منها حين كنت أراها مفروضة على بصرامة.
***
ربما إمكانية أن أختار أن أمارس بعض الطقوس هو ما جعلها اليوم مرغوبة. ربما التقدم فى العمر والتقدم فى الترحال والتقدم بالعلاقات أحيانا وبالجفاء أحيانا أخرى جعلونى أعيد التفكير ببعض ما زال يربطنى بزمان ومكان لم يعودا أصلا موجودين كما عرفتهما. ربما هو خليط من الحنين والتقبل وبعض التسامح وغضب أقل رغم الخيبات الأكبر. ربما أنا، كغيرى ممن لديهم ترف اختيار ما يريدونه لأنفسهم، بعيدا عن ضغوطات عائلية ومجتمعية تكبل خياراتهم، ها أنا أختار أن أعود إلى بعض الممارسات التى كنت قد نسيتها فى سنوات مزدحمة بالبحث عن الغريب والمختلف، سنوات من رفض المألوف والموروث والمفروض.
***
اليوم أختار أن أتمسك ببعض الطقوس تماما كما فعلت أمى، كلانا بعيدتان عن جذورنا فنختار أن نغرس نفسنا حيث نحن، أليس الربيع مناسبة للغرس فى تربة تستقبلنا؟ اليوم أقطف زهورا من حياة بعيدة وأغرسها فى حياتى الحالية، أظن أن باستطاعتى أن أنسق الألوان كما أريد وأنسج قصص بلادى كما أختار، مستخدمة بعض الطقوس التى ورثتها عن أمى وجدتى. هى طقوس التمسك بالحياة.
كاتبة سورية