نحن لا نزرع الشوك
محمود قاسم
آخر تحديث:
الجمعة 7 أبريل 2023 - 7:25 م
بتوقيت القاهرة
هناك ظهرة إذاعية تستحق منا الآن أن نتحدث عنها وأن نحيى صاحبها المخرج محمد علوان وهو ممثل سينمائى له أدوار قليلة، وقد عمل فى إذاعة الشرق الأوسط كمخرج إذاعى منذ بدايتها عام 1964، فصنع ظاهرة درامية بالغة الأهمية خاصة فى كل شهر رمضان، ففى تلك الفترة كانت الدراما الإذاعية هى الأكثر متابعة على مستوى العالم العربى، وفى الوقت الذى كانت إذاعه البرنامج العام تقدم مسلسلات خفيفة ساذجة للغاية كوميدية الطابع غالبا ما يقوم بها فؤاد المهندس وشويكار ومدبولى ومحمد رجب، فإن المسلسلات التى كان يقدمها علوان تتسم بالرصانة الملحوظة ومأخوذ أغلبها عن نصوص أدبية حديثة يقوم ببطولتها أبرز نجوم السينما فى تلك الفترة، وكان هناك عنوان مبتكر بشكل ملحوظ مع كل عمل جديد، كأن يقدم الحلقة بدون فواصل موسيقية، بدون عنوان أو بدون مذيع ويكون العنوان هو اسم الاغنية مثلما حدث فى: صابرين، وكما اهتم بتقديم النجوم الكبار وعلى رأسهم شادية وعبدالحليم حافظ ونجلاء فتحى وحسن يوسف وأيضا عمر الشريف الذى كان يعيش خارج مصر فى تلك الفترة، ويمكن أن نعتبر علوان كمخرج متميز وضع عينيه على الروايات وجعلنا نقرؤها بآذاننا، أغلب هذه الأعمال الدرامية كانت تتحول إلى أفلام يراها الناس فى الصالات بعد أشهر قليلة من إذاعة المسلسل فيكون حاضرا فى الأذهان بين الميكروفون والشاشة، وهذه الظاهرة تحتاج إلى دراسات طويلة وموسعة لكثرة النماذج فيها فمثلا كان زمن الإذاعة يبلغ شهريا للمسلسل الواحد سبع ساعات ونصف أما الفيلم فهو غالبا أقرب إلى ساندويتش صغير يتضمن الفائدة منه، وبالنسبة للمسلسلات الكوميدية فما أسهل أن تنتظر لتضحك طوال الشهر أما بالنسبة للمقارنه بين الإذاعة والسينما فإن التفاصيل تكون مطلوبة فى الفيلم الذى هو بمثابة اختصار للمسلسل، لكن بعض الروايات تكون ضخمة الحجم مثل أعمال يوسف السباعى وبعض أعمال نجيب محفوظ، علما بأنه قد سبقت ظاهرة تحويل الروايات إلى مسرحيات مدة عرضها ثلاث ساعات قبل أن تمتد الظاهرة للسينما. والجدير بالذكر انه بعد افتتاح إذاعة مونت كارلو وفى كل شهر رمضان كان هناك مسلسل إذاعى بعنوان مأخوذ ايضا عن رواية مثل (نادية) ليوسف السباعى،
هذه المقدمة القصيرة جدا نذكرها بمناسبة حديثنا عن فيلم (نحن لا نزرع الشوك) إخراج حسين كمال عام 1970، وهو أول بطولة مطلقة لمحمود ياسين والفيلم مأخوذ عن رواية ليوسف السباعى نشرت عام 1967 وسرعان ما تحولت إلى مسلسل بطولة شادية وكان معها فى البطولة حسن يوسف فى دور حمدى، لكن المخرج حسين كمال منح لمحمود ياسين أول بطولة مطلقة كى يصبح على قمة تاج النجوم طوال السبعينيات على الأقل ويشكل ظاهرة لم تتكرر. ونحن هنا أمام ثلاثة نصوص: الرواية التى نشرت فى البداية فى مجلة آخر ساعة ثم نشرت فى كتاب ثم المسلسل الإذاعى وأخيرا فى الفيلم وهو نص يختلف فى طبيعته عن الكثير من أعمال الكاتب الأخرى وإن كان يتشابه فى أنه يدور فى منطقة السيدة زينب أسوة باعمال كثيرة من المؤلف لكن السمة الرومانسية وأيضا الحس الوطنى على الهامش قياسا بأعمال أخرى من الكاتب، هو نص مأسوى لأمرأة مات أبوها وهى طفلة ثم أمها وتحولت إلى خادمة فى بيت تسكنه أسرة متوسطة الحال.. يعنى رب هذه الأسرة موظف عادى.. وتتربى سيدة البيت وتكبر إلى جوار حمدى ابن الأسرة الطالب المجتهد ويشعر كل منهما نحو الآخر بعاطفة لا يعبران عنها أبدا، وعندما تكبر السيدة تتزوج من رجل وغد اسمه علام ثم تنفصل عنه وتعود إلى الأسرة وتلتقى من جديد بوغد مختلف هو عباس الذى يتزوج منها وينفصل فتلجأ إلى عالم الليل وتكسب الكثير ثم يظهر عباس مجددا ويطلب منها الزواج معلنا توبته لكنه أبدا لا يتوب فيموت ابنها منه ولا تفلح توسلاته فى العودة إلى الحياة الزوجية.
نحن أمام قصة فى أكثر من صياغة وشكل عليك أن تسمعها وتقرأها أو تشاهدها، واللطيف أن التلفزيون قد قام بتصوير هذا المسلسل فيما بعد فى ظاهرة هى الجديدة من نوعها بتحويل الروايات والمسلسلات الإذاعية إلى أفلام، إنه العصر الذهبى والمجد المكتوب فى عالم الأدب المصرى، وكم شبعنا بالمتابعه كما نريد فاليوتيوب يحتفظ بهذه الأعمال الكثيرة جدا حتى الآن، لكن للأسف فإن ظاهرة محمد علوان قد توقفت فى منتصف السبعينيات ليأتى سمير عبدالعظيم ويأخذ نفس المساحة وصار هو نفسة مؤلفا ومنتجا سينمائيا ولم نعرف أبدا عنه أنه اقتبس أيا من أعمالة الكثيرة جدا من أى نص أدبى، وهكذا تغيرت الحياة رغم أن هذا الأخير كان يستعين بكبار النجوم وليس بكبار الكتاب وبينما قدم علوان روايات مثل أنف وثلاثة عيون والرحلة وهذه من تأليف صلاح حافظ فإن عبدالعظيم قدم أفواه وارانب وعلى باب الوزير ثم تفرغ إلى السينما ليقدم شعبان تحت الصفر ورمضان فوق البركان، الآن بعد مرور هذه السنوات الطوال فإن الدراما الرمضانية تقدم فى عام 2023 أكثر من ثلاثين مسلسلا أغلبها مكتوب على طريقة الورشة ليس من بينها سوى نص أدبى واحد عن قصة قصيرة ليوسف إدريس باسم (سره الباتع)، لو نظرنا الآن إلى الستينيات فإنها مرحلة شديدة الخصوبة، ليس فقط على الإذاعة ولكن على جميع أشكال الإبداع، ويكفى أن تنظر إلى أحوال السينما وموضوعات الدراما كى تتساءل: لماذا يتلاشى أمثال محمد علوان؟