الفضل لمن؟
جميل مطر
آخر تحديث:
الأربعاء 7 يوليه 2010 - 10:17 ص
بتوقيت القاهرة
استطاع عالم الرياضيات الروسى جريجورى (جريشا) بيريلمان حل معضلة رياضية فشل العلماء فى حلها على امتداد عقود عديدة، واشتهرت باسم معضلة بوانكاريه. عمَّ الابتهاج الأوساط الأكاديمية بعد أن أعلن كبار العلماء صحة الحل وقرارهم منح جريشا ميدالية فيلدز، وهى أعلى جائزة فى عالم الرياضيات.
وفى باريس أقاموا مؤتمرا كبيرا امتد ثلاثة أيام للاحتفال بالانجاز الباهر وبالعالم العظيم الذى أحرز هذا الإنجاز. ولكن الرجل المحتفى به والمقام الحفل لتكريمه وتسليمه الجائزة لم يحضر وإنما بعث برسالة يعتذر فيها عن عدم استعداده قبول الجائزة. وقع نبأ الاعتذار كالصاعقة على عديد العلماء والمتخصصين ورجال الإعلام الذين جاءوا من أقاصى الشرق والغرب لرؤيته والاستماع إلى تجربته فى حل المعضلة الشهيرة. ما لم يعرفه أغلب هؤلاء هو أن جريجوى بيرلمان قدم استقالته من وظيفته فى معهد ستيكلوف للرياضيات الذى كان يعمل فيه فور تلقيه نبأ اعتراف كبار العلماء بصحة الحل، وانتقل ليعيش مع والدته فى شقتها فى حى متواضع بمدبنة موسكو وقطع اتصالاته بالعالم الخارجى
مرت شهور قبل أن يعلن بيرلمان أنه لم يقبل الجائزة لأنه معترض على مجتمع علماء الرياضيات الذى يصدر قرارات غير منصفة ومن بينها قرار منحه أرفع جائزة لأن «عالما آخر من علماء الرياضيات، هو البروفيسور رتشارد هاميلتون من جامعة كولومبيا يستحق التكريم ولست أنا، لأننى بنيت حل المعضلة على محاولات سابقة قام بها البروفيسور هاميلتون وما كان يمكن أن أصل إلى الحل دون الاستعانة بها». انعقدت الألسنة وانقسم العلماء بين معجبين بتصرف العالم الروسى ومعترضين بشدة
عرفت صديقات وأصدقاء ناجحين وناضجين يصرون على أنهم مدينون بنجاحهم لأشخاص آخرين أو لظروف خارجة عن الإرادة وغير متوقعة. سمعت كثيرين منهم يقولون إن نجاحهم جاء مصادفة، وسمعت آخرين يؤكدون أنه كان ضربة حظ. كثيرات بين هؤلاء الكثيرين، وأغلبهن زوجات، يعتبرن السعادة التى يرفلن فيها إنما كانت واستمرت بفضل رجال أصدقاء أو رجال أزواج، أو بفضل حظ، وفى حالات أقل عددا كانت السعادة واستمرت بفضل دعاء أم فاضلة.
وأظن أن بعضنا شاهد على زوجات عديدات يرجعن ذكاء أطفالهن وتقدمهم فى الدراسة وانجازاتهم حين يتخرجون أو يخرجون إلى سوق العمل إلى دأب أزواجهن وحسن تربيتهم لبناتهم وأبنائهم. قابلت ونقابل رؤساء عمل، وإن معدودين، ينسبون نجاح مؤسساتهم إلى مرءوسيهم وأحيانا إلى «ظروف اجتماعية واقتصادية مواتية». ونقابل أحيانا شبانا وشابات إذا أشدنا أمامهم بأدوارهم وانجازاتهم التى نلمسها فى عمل فريق ينتمون إليه أو منتدى يشاركون فى أنشطته أو صحبة يعملون فيها أجابوا «أشكرك..فجميع زملائى طيبو القلب أنقياء السريرة...إنها بالحق والصدق مجموعة متميزة أخلاقيا واجتماعيا وأتعلم منها الكثير».
نعرف عن قرب وتجارب كثيرة نوعا آخر من الناس. عرفنا ناجحات وناجحين منبهرين دائما وأبدا بانجازاتهم تعاظمت أم تواضعت. بعض هؤلاء لا يترك فرصة تمر دون أن يؤكد للسامعين أو القارئين أو المشاهدين أنه وحده صانع الانجاز. لم يأت النجاح مصادفة ولم يتدخل فيه الحظ أو العلاقة الاجتماعية ولا حتى دعاء الوالدين أو مساهمات الآخرين من رؤساء ومرءوسين. وإذا فرضت الظروف والمصلحة الإشارة لها، فليكن ولكن عابرا أو على الهامش.
يندرج فى هذا النوع الباحثون موسميا وفى كل مناسبة عن جوائز. هؤلاء هم من نوع ساع دائما إلى كسب الاعتراف به، وبعضهم عاتب على المجتمع الذى لم يمنحه ما يستحق مقابل ما أنجز وما سوف ينجز. أما الفشل، إن وقع لا قدر الله، فأسبابه دائما وفيرة ومتراوحة بين مؤامرات الأعداء والحقودين والمنافسين والتدخل فى الشأن الخاص. وإذا تعلق الفشل بالسياسة زاد التركيز على الجانب التآمرى والتدخل فى الشأن الداخلى والزيادة السكانية الرهيبة والطبيعة التى تعاند تارة بالسيول وتارة بالجدب والجفاف. يكاد لسان الحال يقول «الإنجاز أنا مسئول عنه، والفشل أنتم مسئولون عنه».
إذا فشل الأبناء أو نزل بهم كرب قال الزوج لزوجته «أولادك فاشلون أيتها الزوجة». وإذا نجحوا وصحوا وتأدبوا وفازوا على أقرانهم «فهؤلاء أولادى يا امرأة» .سمعنا رؤساء دول يقولون «إذا الشعب كان راضيا ورافلا فى الرفاه والحبور فإنه شعبى الذى سخرت له عمرى، وإذا الشعب كان غاضبا ومنغمسا فى التعاسة والبؤس، فقد غرر به. أنا مسئول عن الخير إن جاء خير وغير مسئول عن الشر الذى حل. الخير أنا صانعه أما الشر فتصنعه قوى البغى والشر، يصنعه القدر والحظ والشياطين والمتآمرون والطامعون والموتورون».
توجد مشكلة فى الحالتين، حالة الفرد الذى يخجل من الاعتراف بانجازه ويتواضع أمام الإشادة به، وحالة الفرد الذى ينكر على الآخرين أدوارهم وينسب كل الانجاز إلى نفسه. المشكلة التى أعنيها ناتجة فى الغالب عن عدم ثقة كافية بالنفس. لا أقول بالضرورة إنها حالة مرضية ولكنى أعتقد أن السكوت عنها يضاعف ضررها. وأعظم الضرر هو الذى يصيب بالعجز قدرات الإنسان فى الخلق والتجديد والإبداع.