أحط مراتب الكذب
جميل مطر
آخر تحديث:
الأربعاء 7 أغسطس 2013 - 8:00 ص
بتوقيت القاهرة
يا إلهى. ما كل هذا الكذب الذى نسمعه هذه الأيام؟! متدينون وعلمانيون وإعلاميون وضيوف على الإعلاميين ورجال دين ورجال علم وسياسة، أكثرهم يكذبون.
تجاوزنا المدى فى الكذب على الغير وعلى أنفسنا. حتى الأطفال لم يسلموا. علموهم الكذب حين أوقفوهم صفوفا يحملون الأكفان. تأملت فى عيونهم فرأيتها تنطق بحب الحياة والرغبة فيها والتعلق بها، ولكن ها هم أمامنا، وأمام العالم بأسره، على الشاشات يمشون صفوفا وكأنهم فى عرس يحملون على أكفهم «جهاز» أعراسهم. دفعوهم دفعا وبوحشية إلى الكذب ومازالوا أطفالا لم يرشفوا بعد رحيق الربيع ويتذوقوا حلو العيش.
أتحدى أن يقول طفل من هؤلاء الأطفال إنه يريد الموت. هو كاذب إن نطق بها، والرجل الذى أثار فيه الرعب لينطق بها هو أيضا كاذب. كذب على الطفل بل اغتصب براءته وأفسد حياته وحضه على عصيان إرادة الخالق حين شجعه ليضع حدا لعمره أو حين قرر له أن يموت. الرجل يكذب والمهللون من حوله يكذبون والطفل تلقن، على أيدى إنسان يزعم التزامه الدين والأخلاق، أول درس فى الكذب.
●●●
ولدتهم أمهاتهم أحرارا بغير قيود ولكن ولدتهم أيضا صادقين لا يكذبون. الطفل من الطبيعة فهو ابنها، وكلاهما لا يعرف الكذب. الطبيعة لو كذبت لصار الكون فى فوضى ولعشنا فى جحيم. نحن، الأمهات والابناء، علمنا أطفالنا الكذب حين أثرنا فى نفوسهم الخوف من قول الحقيقة والاعتراف بالخطأ. الأصل فى الكذب، عند الكبار والصغار على حد سواء هو الخوف. يبدأ الطفل حياته لا يشك فى صدق كلمة تنطق بها أمه. يصدق كل ما تقوله حتى يكتشف أنها تكذب ثم يتعود على كذبها، ثم يكذب. لم يدرك، إلا بعد فوات الأوان، أنها كانت تكذب خوفا عليه ولحمايته.
●●●
الطفل حامل الكفن لم يكن الإنسان الوحيد الذى مارس الكذب فى هذه الثورة. سمعنا فى بدايتها أشخاصا كانت لهم قيمة علمية بين المؤرخين وعلماء السياسة وإعلاميين وكتاب، يقولون إن ثورة يناير 2011 خطط لها ونظمها وفجرها عدد من أعضاء حركة حماس الغزاوية. وأن لا فضل لمصرى عليها. سمعنا آخرين، يتمتعون بالسمعة نفسها ولهم شعبية لدى قراء ومشجعين، قالوا إن «الحقيقة» اكتملت عندهم بالقرائن الدامغة على أن هذه الثورة من صنع قوى غربية وصهيونية وماسونية ويقودها عملاء علمانيون أو كفرة. كل هؤلاء، السابقون واللاحقون، من الأشخاص المحترمين، كذبوا كذبا مفضوحا، ومازال بعضهم منغمسا فى الكذب. إذ لم يفرج واحد منهم، من هذا الفريق أو ذاك، عن مستند أو وثيقة يدعم هذه الحقيقة التى زعموا أنهم توصلوا إليها.
هؤلاء لن يكونوا آخر من اشترك فى تزييف التاريخ. كريستوفر كولومبس كان أحد أشهر من كذبوا فكادت كذبته تصبح حقيقة علمية وجغرافية دامغة. شارل بونزى وبرنى مادوف من الغرب والريان وسعد وآخرين من مصر والشرق استخدموا الكذب ليجمعوا ثروات طائلة. كذبوا على صغار المدخرين ووعدوهم بأرباح كبيرة بينما كانوا يدفعون لهم من إيداعات من يأتى بعدهم من المدخرين. انكشف الكذب ولكن بعد أن خسر الناس مدخراتهم وخسر الاقتصاد الثقة والأمان. الجدير بالذكر أنه فى معظم الحالات استخدم المحتالون علاقتهم بالمسجد والمعبد والتظاهر بالورع والأخلاق الفاضلة لتأكيد أنهم لا يكذبون. وكانوا يكذبون.
●●●
كتب التاريخ حافلة بقصص الكذب. والغريب فى الأمر، اننا كآباء وأمهات كنا نهتم بأن نقرأها لأطفالنا. لم ندرك وقتها أننا بما فعلنا كنا نمجد الكذب ونسميه إبداعا. كان بالفعل إبداعا ما فعله أهل المدينة الإغريقية حين زعموا لأهل طروادة، بعد حرب دامت عشر سنوات، أنهم تعبوا من الحرب وفى نيتهم إرسال هدايا ثمينة معبأة داخل حصان خشبى كبير الحجم. صدق أهل طروادة الكذبة وسمحوا بدخوله إلى المدينة المحاصرة. وبحلول الليل نام أهل طروادة وخرج من الحصان الجنود اليونانيون ليحرقوا المدينة.
●●●
هناك أيضا قصة أنا اندرسين، الشهيرة بأناستازيا، الطفلة التى ظهرت فى عام 1920 فى أحد المستشفيات بعد محاولة انتحار، زاعمة أنها الابنة الأصغر لقيصر روسيا التى استطاعت الإفلات من حفل الإعدام الجماعى للقيصر وعائلته. صدقها الكثيرون وكذبها الكثيرون، ولكنها عاشت مصرة على روايتها حتى ماتت فى عام 1984. وبعد موتها استطاع العلماء بفضل التقدم العلمى تحليل DNA لجثث عائلة القيصر وأصدروا حكمهم النهائى القاطع فى عام 2009 القاضى بأن الطفلة أنا اندرسين كانت تكذب وأنها ليست أناستازيا ابنة القيصر.
●●●
نقلوا عن نيتشه قوله «أنا لست منزعجا لأنك كذبت على، انا منزعج لأننى لن أتمكن من تصديقك بعد اليوم». وقد كتب حكماء العرب قديما أن الرجل المؤمن إيمانا صحيحا لا يمكن ان يكذب، فالإنسان العادى هو الخاسر إذا كذب على أصحابه لأنه يفقد صحبتهم واحترامهم، أما إذا كذب رجل دين وصاحب رسالة على جماعته وأمته فالخاسر هنا هو الدين والرسالة وليس فقط الجماعة أو الأمة.
●●●
أحط مراتب الكذب فى رأيى، كذب الأئمة على المصلين، وكذب السياسيين على شعوبهم، وكذب الشعوب على حكامها.