دول على أريكة طبيب نفسى
جميل مطر
آخر تحديث:
الخميس 7 أغسطس 2014 - 7:15 ص
بتوقيت القاهرة
قرأت تصريحا للورد كاميرون رئيس وزراء بريطانيا عن أحداث غزة، فكان طبيعيا ومعتادا أن تثار مشاعر كثيرة فى داخلى. أثيرت وتداخلت وكان أبرزها قرف وغضب ورغبة فى شماتة ولو مسحة منها. ازداد القرف والغضب عندما قارنت ما صرح به وبخاصة رده على زعيم المعارضة إيد ميليباند بمواقف وتصريحات رؤساء حكومات فى بوليفيا وفنزويلا والبرازيل والارجنتين وشيلى وغيرها.
لم يخفف من مشاعر القرف والغضب حقيقة مدوية وهى أن حكاما من العرب بل ربما أكثرهم، لم يتخذوا مواقف أفضل كثيرا من موقف اللورد كاميرون والسيد باراك أوباما والمسيو أولاند وهم من أبرز زعماء العالم الحر ومن دعاة احترام حقوق الإنسان وحماية النساء والأطفال فى أوقات الأزمات والحروب. هؤلاء، ومعهم زعماء من العرب تعاملوا مع تطورات الحرب على شعب غزة، من واقع اعتقادهم أنها حرب تشنها إسرائيل على تنظيم سياسى يناصبهم ويناصبونه الخلاف وربما العداء. استطعت أن اتفهم المواقف الرسمية العربية التى تستند عادة إلى قاعدة عدم التمييز بين الحاكم والشعب، أو الحكومة والدولة والشعب. هم متخاصمون مع حكومة حماس وبالتالى شعوبهم متخاصمة مع شعب غزة. بهذه البساطة تتحول انفعالات حاكم أو نخبة حاكمة إلى حالة كره عام وضغينة دائمة أو موسمية. تفهمت بالألم الشديد المواقف الرسمية العربية من حرب غزة ولكنى لم اتفهم إطلاقا مواقف كاميرون وأوباما وأولاند، دعاة الحرية والعدالة والتقدم.
لم يسأل حكام كثيرون أنفسهم عن ذنب شعب غزة حتى إن كرهوا حكومته وأرادوا لها الهزيمة. لم يفكروا طويلا لأنهم اصطنعوا الاعتقاد بأن شعب غزة توحد مع حكومته كما «توحدت» شعوبهم معهم. حرصوا حرصا متناهيا على أن يسارعوا بإعادة توجيه الانتقادات لسياساتهم لتصب كراهية متبادلة بين الشعوب، بعد أن يكون الإعلام الرديء قد نجح فى تصوير الأخطاء التى يرتكبونها أوزارا تتحملها الشعوب.
•••
اللورد كاميرون ليس استثناء. ولن يبرد من ثورة غضبى عليه ما أعلمه من أنه ومستقبل بلاده فى حال لا يحسدان عليها. تذكرت مقالا فى صحيفة أمريكية، نشر قبل شهر أو أكثر، يصف فيه كاتبه بريطانيا كمريض مستلق على أريكة فى عيادة طبيب نفسانى. الحالة مستعصية، كما يبدو على سمات المريض ورد فعل الطبيب، فالمريض يعانى من «أزمة هوية حادة»، تسببت فى انهيار عصبى شديد. ظهر أخطر عرض من أعراض هذه الحالة عندما أعلن أليكس سالموند، رئيس الحزب القومى الاسكتلندى، صاحب الأغلبية فى البرلمان المحلى فى عام 2011 عن نية حكومته إجراء استفتاء فى عام 2014 للشعب الاسكتلندى على مشروع الانفصال عن المملكة المتحدة وإعلان استقلال اسكتلنده دولة أوروبية حرة.
كان للإعلان فى وقتها دلالة، بل دلالات كثيرة مهمة، كما كان لتحديد تاريخ الاستفتاء سنة 2014 مغزى كبير. ففى هذا العام يحتفل الشعب الاسكتلندى بالذكرى السبعمائة لانتصار عسكرى تحقق بقيادة البطل الاسكتلندى روبرت ذا بروس، على جيش إدوارد الثانى ملك إنجلترا. هكذا استمر العنصر القومى فى العلاقة بين اسكتلنده وإنجلترا حيا وفاعلا لأكثر من سبعة قرون، وها هو الآن يقرر من جديد مصير المملكة المتحدة كدولة متعددة الكيانات. مرة أخرى نعيش تجربة شعب يحن إلى أمجاد قومية، يفضلها على نعم أخرى مادية ومعنوية.
•••
لا شماتة. صحيح أن عددا متزايدا من دول العالم العربى يتعرض الآن لأزمات هوية متعددة، بل إن فى كل دولة عربية شجرة أزمات أغلبها أزمات هوية. صحيح أيضا أن أعراض بعض هذه الأزمات حرجة إلى درجة تهدد وجود دول. ليس سرا أن بعض هذه الدول يتعرض لانهيارات عصبية متعاقبة وتشنجات هوية لا تنقطع. إلا أنه يبقى صحيحا أيضا أن الداء يتدهور بسرعة ليصير وباء، لا يميز بين دول نامية ودول متقدمة، أو بين شرق وغرب، أو بين شمال وجنوب. هناك أزمات هوية، بعضها شديد التعقيد، وبعضها شديد الالتهاب، يكاد لا يخلو منها مجتمع من المجتمعات.
من ناحية ثانية لا شك عندى فى أن الاستفتاء المزمع إجراؤه فى اسكتلنده بعد حوالى 40 يوما، يؤكد فى حد ذاته ودون انتظار لنتائجه، عمق أزمة الهوية فى بريطانيا. ولكن يخطئ من يعتقد أنه العارض الوحيد، إذ تواجه بريطانيا أزمة هوية فى علاقتها بالاتحاد الأوروبى بدأت قبل انضمامها واستمرت خلال عضوية بريطانيا فى الاتحاد ورفضها الانضمام إلى اتفاقية العملة الموحدة. والآن يضيف اللورد كاميرون تعقيدا إضافيا عندما يعلن عن نية حكومته إجراء استفتاء على استمرار عضوية بريطانيا إذا لم يلب الاتحاد شروط بريطانيا. أهم هذه الشروط ضرورة إبطاء مسيرة الوحدة الأوروبية ووقف القيود على سيادة وسلطات الدول الأعضاء لصالح سلطة المفوضية فى بروكسل.
من ناحية ثالثة تعرضت مكانة بريطانيا الدولية للانحسار المتوالى مرة بعد مرة. بدأ الانحسار مع مطلع القرن العشرين والحرب العالمية الأولى، وعالجه ساسة بريطانيا بالاعتماد شبه المطلق على صعود الولايات المتحدة وقوتها ومكانتها. استطاعوا بناء علاقة خاصة بين الدولتين صمدت فى وجه النازيين والفاشيين والشيوعيين على امتداد القرن العشرين. المهم فى هذا التاريخ الوجيز لانحسار بريطانيا هو أن البريطانيين، ساسة وشعوبا، يشعرون الآن بأنهم يفقدون هذه العلاقة الخاصة التى أمنت لهم فى الماضى مستقبلهم ونموهم الاقتصادى. كانت هذه العلاقة «الخاصة جدا» آخر ما تبقى لهم من التراث الامبريالى، إلى حد أن سياسيين بريطانيين لا يخفون قناعتهم أن الصين صارت أهم لأمريكا من بريطانيا كشريك فى القيادة.
من ناحية رابعة، لم يقتصر السبب فى أزمة الهوية المتفاقمة على صعود الروح القومية فى اسكتلنده وويلز. تفاقمت الأزمة لأسباب عديدة مثل ظروف العولمة والتوجه المتصاعد نحو اليمين فى سياسات حكومات المملكة المتحدة خلال الأربعين عاما الماضية، وهو التوجه المتناقض تاريخيا وسياسيا مع المزاج الليبرالى،واليسارى أحيانا، للشعب الاسكتلندى. تفاقمت أيضا حين أصبح يعيش فى بريطانيا البريطانى الأسود والبريطانى المسلم والبريطانى شرق الأوروبى والبريطانى الهندى. تغيرت بريطانيا مكانة وعقيدة اجتماعية واقتصادية وتغيرت شكلا وسحنة ولونا.
•••
لم تكن هذه التحولات غائبة عن النخبة البريطانية الحاكمة. حاولت هذه النخبة وبذلت جهودا كبيرة وتدخلت لإعادة توازن القوى إلى المجتمع البريطانى من جهة وإلى القارة الأوروبية من جهة أخرى. أصدرت قوانين حازمة للهجرة وامتنعت فى حين أو آخر عن مسايرة السياسة الخارجية الأمريكية بحذافيرها، وحاولت الاحتفاظ لنفسها بهامش من حرية القرار فى السياسة الدولية، بل راح كاميرون نفسه يدعو إلى انعاش منظومة «القيم البريطانية» دون أن يعرف تماما ما يعنيه بالقيم البريطانية، تحدث مثلا عن الماجنا كارتا كوثيقة تاريخية تجسد هذه القيم، وعندما سئل عن معناها الحرفى اتضح انه لا يعرف. راحوا أيضا فى لندن يبرزون دور رموز التاج البريطانى مثل الجيش بإشراكه فى الاحتفالات القومية وإنعاش الذاكرات التاريخية عن الأمجاد القديمة وبخاصة الإمبراطورية.
•••
لا شيء يؤكد أن الاسكتلنديين سوف يقررون يوم 18 سبتمبر المقبل استقلالهم عن المملكة المتحدة، فالناس هناك مازالت حائرة تتنازعها عناصر العاطفة والمنطق. نصف سكان اسكتلنده يعتقدون أنهم سوف يكونون أسعد حالا إذا وقع الطلاق بينهم وبين التاج البريطانى. يعتقدون أيضا أنهم أقرب مزاجا ورفاهة من الشعوب الاسكندنافية منهم إلى شعب انجلترا وغيره من شعوب وسط وجنوب أوروبا. آخرون يعرفون عن ثقة أن الاتحاد الأوروبى لن يوافق على انضمامهم قبل مضى وقت طويل، ويدركون تماما ان أمريكا لن ترحب بانفصالهم وأن الصين رفضت تشجيعهم وألمانيا لا تريد للانفصال أن يقع. أتصور أن ألمانيا لا تتمنى أن ترى بريطانيا أضعف مما هى عليه الآن، فضعفها الحالى صار ملموسا ومؤثرا على نظام توازن القوى الأوروبى، وعلى موقع ألمانيا فيه ويحملها ما لا تريد أن تتحمله.
•••
أكاد ألمس تفاصيل وثنايا أزمة الهوية البريطانية فى أسوأ صورها فى كل مرة اسمع فيها أو أرى السيد طونى بلير. ألمسها حين اسمعه مدافعا عن دوره فى حرب العراق ومتبرئا من الأذى الأخلاقى المريع الذى لحق بسببه بمكانة بريطانيا فى العالم. وألمسها حين أراه متنقلا بين قصور العرب بدون أى سبب شريف أو مبرر منطقى. أتصوره أحيانا تجسيدا صاعقا لصورة التصقت بمخيلتنا العربية عن شخص رجل الاستعمار البريطانى الذى بفضله المتناغم مع فضل بعض قياداتنا العربية وصلنا إلى ما نحن فيه.