حينما وقعت المواجهة منذ بضعة أسابيع بين أهالى جزيرة «الوراق» وبين قوات الشرطة التى جاءت لتنفيذ قرار بإزالة بعض التعديات بحسب الرواية الرسمية، وبعد أن انتهى الأمر بسقوط قتيل وعشرات الجرحى وانسحاب قوات الأمن، فإن الجدل الذى ثار بعدها تركز حول الجوانب القانونية للموضوع، وهل للدولة أن تزيل تلك التعديات أم أن للأهالى حقوقا ثابتة على الجزيرة يلزم احترامها. ولكن الواقع أن للموضوع جانبا آخر لا يقل أهمية، وهو أن تفجر قضية «الوراق» على هذا النحو الخطير والمفاجئ يرجع إلى غياب آليات رسمية ومستقرة للتفاهم والتفاوض وحسم الصراعات فى المجتمع بشكل عام وليس فى هذه القضية وحدها.
المجتمع الفاضل الذى يسوده العدل المطلق والوئام والتفاهم فى كل المواضيع لا وجود له فى العالم الحقيقى، لا فى مصر ولا فى أى مكان آخر. هناك بالضرورة مصالح متعارضة، وحقوق متصارعة، وأسانيد تدعم موقف كل طرف وكل مجموعة وكل طبقة. هذا فى حد ذاته طبيعى ولا ينبغى اعتباره دليلا على تفكك المجتمع أو انقسامه. مصالح العمال وأرباب العمل لابد أن تتباين وتختلف، وكذلك المزارعين وملاك الأراضى، والمستوردين والمصدرين، وأصحاب العقارات ومستأجريها، والمدخرين والمقترضين، ومن يزاولون أنشطة رسمية وعرفية، وهكذا. ولأن هذه التناقضات قائمة لا محالة، فإن المجتمع يكون مستقرا ومتماسكا حينما تتوافر لديه آليات رسمية ومستقرة لحسمها والتفاوض بشأنها وبناء التوافقات حولها، بما يمنع تفجر كل خلاف على الأرض وبلوغه حد المواجهة العنيفة بين الدولة والأهالى، أو بين أصحاب تلك المصالح المتناقضة.
هذه الآليات ليست فقط النيابات والمحاكم التى ينبغى أن تكون الملاذ الأخير. فالمفروض أن يسبقها نقاش يشارك فيه رؤساء الأحياء وأعضاء المجالس المحلية، والمحافظون والوزراء ونواب البرلمان، وتفاوض منظم وعلنى مع أصحاب الشأن، وحوار فى وسائل الاعلام استنادا إلى حقائق لا أساطير وشائعات، ومشاركة من الأحزاب والجمعيات الأهلية، وتدخل من النقابات للتعبير عن مصالح أعضائها. فإذا فشل كل ما سبق، يكون اللجوء إلى المحاكم هو الخطوة الأخيرة والحاسمة ويصبح على الجميع احترام قرارتها دون أن تراق الدماء أو تتعطل المصالح.
ولكن ماذا يحدث حينما لا تكون هناك مجالس محلية منتخبة؟ ولا أحزاب تمثل الناس وتدافع عن حقوقهم؟ ولا إعلام مستقل ينقل الحقيقة ويعبر عن مختلف وجهات النظر؟ ولا برلمان مهتم بشئون الناس؟ ولا جمعيات أهلية قادرة على التفاعل مع مشكلاتهم اليومية؟ ولا نقابات تعبر عن مصالح أعضائها؟ ولا مسئولين محليين لديهم السلطات القانونية للتصرف دون الرجوع فى كل تفصيلة إلى أعلى المستويات التنفيذية؟ ولا محاكم قادرة على حسم الخلافات بالسرعة المطلوبة؟ الذى يحدث هو بالضبط ما شهدناه فى «الوراق»، أن يستعين المسئولون بقوات الأمن لتنفيذ قراراتهم، وأن يضطر الأهالى للوقوف فى الشارع لحماية حقوقهم وممتلكاتهم بأنفسهم.
وبسبب غياب هذه الآليات المؤسسية لحل الخلافات فى المجتمع، فليس غريبا أن يلجأ أصحاب الحقوق الضائعة لجميع الوسائل البديلة، المشروع منها وغير المشروع، لحل مشكلاتهم، سواء التوسل للمسئولين، أو البحث عمن يمكن شراء ذمته، أو الاستعانة بالبلطجية، أو نقل الشكوى لأحد البرامج الفضائية، أو الاستغاثة برئيس الجمهورية على صفحات الجرائد. كل هذه البدائل تعبر عن ظاهرة واحدة، وهى غياب القنوات الرسمية للتفاوض وحسم الصراع فى المجتمع.
فى ظل الظروف الاقتصادية الصعبة التى يمر بها الوطن، ومعاناة الناس من ارتفاع الأسعار وندرة فرص العمل، فإن هذه الخلافات والصراعات مرشحة بالضرورة للتصاعد. والذى يمكن أن يمنعها من أن تتحول إلى مواجهات على الأرض ليس غياب الأمن أو تقاعسه لأن التدخل الأمنى لا يكفى وحده لحسم كل الخلافات فى المجتمع، بل غياب المؤسسات السياسية والمدنية التى تساهم فى حل المشكلات وتخفيف حدة الصراعات والحفاظ على السلم الاجتماعى.
هذا هو المفهوم الحقيقى للديمقراطية والشراكة فى صنع القرار وفى ادارة شئون الوطن. فهل نملك ترف تأجيلها؟ أم أن هذا الإرجاء هو الذى يساهم فى زيادة التوتر والعنف ويعرقل التنمية الاقتصادية؟