خلافات الأوروبيين.. هل تعجل بنهاية الحرب فى أوكرانيا؟
عزت سعد
آخر تحديث:
الأحد 7 أغسطس 2022 - 9:40 م
بتوقيت القاهرة
منذ انتهاء الحرب الباردة، بات الانقسام الأوروبى حول كيفية التعامل مع روسيا وعلاقاتها بأوروبا، سمة واضحة من سمات السياسة الأوروبية تجاه موسكو، حيث يمكن التمييز بين فريقين: فريق، يضم ألمانيا وفرنسا بصفة أساسية، يرى أنه لا مجال للتشكيك فى وجود روسيا كدولة أوروبية وشريك أساسى فى قضايا أمن القارة والمورد الأكبر للطاقة فيها وأحد الشركاء التجاريين الرئيسيين للاتحاد الأوروبى. ويسعى هذا الفريق إلى تحقيق ما يسمى بالاستقلال الذاتى الاستراتيجى، وأن يكون أمن أوروبا فى يد دولها فى المقام الأول ودون استبعاد الولايات المتحدة الأمريكية. أما الفريق الآخر، فيضم بلدان أوروبا الوسطى والشرقية الشيوعية السابقة خاصة دول الجوار الروسى (بولندا وجمهوريات البلطيق وأوكرانيا)؛ يصطف خلف واشنطن، ويتخذ موقفا متشددا تجاه موسكو، ومقتنعا بأن الانضمام إلى حلف شمال الأطلسى (الناتو) هو مفتاح الاستقلال والديمقراطية والازدهار والحصن المنيع ضد محاولات روسيا استعادة الهيمنة عليها.
ومن المنظور الروسى، تكمن المشكلة فى أنه بعد انهيار الاتحاد السوفيتى، أنشأت الولايات المتحدة وحلفاؤها نظاما للأمن الأوروبى يقوم على الدور المهيمن لأمريكا، والموقع المركزى لحلف الناتو كأداة للتنظيم العسكرى والسياسى، وضمان الأمن الغربى والنظام الليبرالى الدولى الذى أنشأته واشنطن ما بعد الحرب العالمية الثانية. وقد نظرت روسيا للناتو دائما على أنه منصة للحضور العسكرى الأمريكى فى أوروبا، وأن دول القارة الأعضاء فى الحلف ليسوا سوى وكلاء لواشنطن. وبالتالى تقدر موسكو أن أى تجاذبات حول الأهداف الاستراتيجية لسياستها ومصالحها فى أوروبا يجب تسويتها مع واشنطن فقط باعتبارها صاحبة القرار.
على الخلفية عاليه، ينبغى قراءة موقف الاتحاد الأوروبى من الأزمة الأوكرانية والتباينات فى مواقف الدول الأعضاء فى هذا الشأن، وأيضا انتقادات زيلينسكى الحادة لكل من ألمانيا وفرنسا بالتقاعس عن مساعدته وموالاة الروس، رغم ما قدمه البلدان من دعم كبير لأوكرانيا حتى الآن.
والحقيقة أنه مع قيام الحرب، التى باتت الأكبر فى أوروبا منذ عقود، تخلى الاتحاد الأوروبى والدول الأعضاء عن انقساماتهم والعديد من السياسات الطويلة الأمد، متخذا خطوات وتدابير كانت ستواجه بمعارضة قوية من مختلف الاتجاهات فى الظروف العادية. وشملت قرارات الاتحاد فى هذا الشأن، بجانب انضمامه والأعضاء إلى حزم العقوبات الاقتصادية غير المسبوقة ضد روسيا، تمويل تسليم الأسلحة الفتاكة إلى بلد ثالث، وتعزيز تعاونه العسكرى فى مواجهة تصورات التهديد الجديدة. وأرسل الاتحاد إشارات واضحة لفتح العضوية فيه للجيران الشرقيين للتكتل بعد سنوات من عدم الحماس لذلك، كما أطلق «توجيه الحماية المؤقتة» لعام 2001، الذى يمنح الإقامة المؤقتة للاجئين الأوكرانيين، رغم السياسة المتحفظة التى اتبعتها أغلبية دول الاتحاد فى هذا الشأن قبل الحرب، بما فى ذلك رفض دول الجوار المباشر لأوكرانيا استقبال أى لاجئ وفقا لنظام المحاصصة الذى كانت ألمانيا قد اقترحته عام 2016، ارتباطا بأزمة اللاجئين السوريين.
• • •
يمكن القول بأن الانقسام بين الدول الأعضاء فى الاتحاد الأوروبى يتمحور حول قضيتين رئيسيتين: الأولى تتعلق بفرض عقوبات على النفط والغاز الروسي؛ حيث يدعم البعض طلب أوكرانيا التوقف تماما عن شراء الطاقة من روسيا (نفط ــ غاز ــ فحم)، باعتبار أن عائداتها تمول بشكل مباشر جهدها الحربى، ويضم هذا التوجه كل من بولندا وجمهوريات البلطيق بصفة خاصة. أما وجهة النظر الأخرى، فترى استحالة الاستغناء عن الطاقة الروسية التى يعتمد عليها العديد من الدول الأعضاء، وذلك فى المدى القصير وفى غيبة وجود بدائل. ويمتد الجدل حول ملف واردات الطاقة الروسية ليشمل أيضا المدفوعات مقابلها بالعملة الروسية (الروبل)، حيث امتثلت بعض الدول والشركات المستوردة لطلب روسيا فى هذا الشأن، بينما لا تزال دول أخرى ترفض، الأمر الذى دفع موسكو إلى وقف تدفق الغاز إليها مثل بولندا وبلغاريا وفنلندا وهولندا.
أما المسألة الخلافية الثانية، وربما الأكثر أهمية وحساسية فى الوقت ذاته فتتعلق بكيفية التعامل مع روسيا ارتباطا بالأزمة، حيث تتبنى الدول المطالبة بتشديد العقوبات والحظر الكامل لواردات الطاقة، والتى تقودها الولايات المتحدة وبريطانيا، موقفا متشددا إزاء أى محاولات لفتح مسار دبلوماسى أو تفاوضى مع روسيا من أجل إنهاء الحرب؛ إذ ترى هذه الدول، أن الضغط على أوكرانيا للتوصل إلى تسوية تفاوضية مع تنازلات إقليمية لن يؤدى إلى سلام واستقرار على المدى الطويل فى أوروبا. كما أن من شأنه مكافأة العدوان العسكرى الروسى فى المدى القصير، وخلق مساحة جديدة من عدم الاستقرار فى قلب أوروبا، والتغاضى فعليا عن جرائم الحرب الروسية وتغيير خريطة العالم.
وفى هذا السياق، انتقد رئيس الوزراء البولندى الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون على خلفية تواصله مع نظيره الروسى منذ بدء الحرب، حيث ذكر الأول: «ما من أحد تفاوض مع هتلر»، ورد عليه ماكرون: «يمينى متطرف معاد للسامية».
وكانت إيطاليا اقترحت، فى أواخر مايو 2022، خطة سلام من نقاط أربع من شأنها أن تتوج بتخفيف العقوبات المفروضة على روسيا. كما كان وزير الخارجية الأمريكى الأسبق هنرى كيسنجر ــ فى كلمة ألقاها فى دافوس فى مايو ــ قد دعا إلى التنازل عن أراضٍ لروسيا وبدء المفاوضات معها على الفور. وفى بدايات يونيو 2022، أعاد الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون دعوته إلى عدم «إذلال» روسيا. وهناك آراء متعددة تتبلور حاليا ــ بما فيها أمريكية ــ تميل إلى إعطاء موسكو أرضا مقابل السلام، وأن «العملية العسكرية الروسية» التى أطلقها بوتين فى فبراير الماضى لها ما يبررها، على الأقل جزئيا.
• • •
يشير الواقع العملى فى الدول التى تتحدث عن السلام والحلول الدبلوماسية فى أوكرانيا إلى أن هناك تكلفة سياسية داخلية ستدفعها النظم الحاكمة. وعلى سبيل المثال لم تفلح الجهود اليائسة فى إيطاليا فى منع سقوط حكومة ماريو دراجى فى 20 يوليو 2022. وفى فرنسا، فَقَد إيمانويل ماكرون أغلبيته البرلمانية لصالح أحزاب أكثر تعاطفا مع الموقف الروسى. أما فى إسبانيا، فقد خسر الاشتراكيون قاعدة قوتهم فى الأندلس أخيرا؛ حيث حقق حزب الشعب رقما قياسيا جديدا بلغ 36.3% وفق أحدث استطلاع للرأى. وفى إستونيا، نجت رئيسة الوزراء المناهضة بشدة لبوتين، «كاجا كالاس»، فى يوليو 2022، بعد سقوط حكومتها الائتلافية السابقة فى صراع مرتبط بمعدل التضخم فى البلاد البالغ 19%، وهو الأعلى فى منطقة اليورو.
ولعل السؤال الذى يفرض نفسه هنا هو: هل يمكن أن يتطور هذا الانقسام الأوروبى إلى حد التهديد الجدى لتماسك الموقف الغربى تجاه روسيا؟.
• • •
يمكن القول بأن حالة الإجماع الأوروبى والعمل كمجموعة ضمن مؤسسات الاتحاد الأوروبى ضد روسيا، يعد عاملا مهما يمكن أن يلعب دورا فى التأثير على مسار الأزمة، غير أنه ليس العامل الوحيد أو حتى العامل الحاسم، ناهيك عن حقيقة أن حماس دول الاتحاد فى فرض عقوبات اقتصادية ضخمة على موسكو، بجانب تحركات الاتحاد الأخرى على مسارات السياسات الدولية الرامية إلى عزل روسيا ومقاطعتها، مرتبط ــ بصفة أساسية ــ بضغوط وموقف الحليف الأمريكى الذى يدرك مدى ضخامة وتشابك مصالح أوروبا معه، ومن ثم فإن أى تغيير ــ ولو محدود ــ فى الموقف الأمريكى سيؤثر بلا شك فى توجهات الدول الأوروبية، ويضعف من وحدتها والتصرف كمجموعة ضد روسيا.
والمراقب لأزمة روسيا مع الغرب منذ البداية، لابد وأن يصل إلى نتيجة مفادها أن الطرف الرئيسى فى هذه الأزمة هو الولايات المتحدة الأمريكية فى المقام الأول وليس دول أوروبا الغربية، التى جرى ــ ويجري ــ استخدامها لتكون نواة لنظام أمنى أوروبى يخدم الدور المهيمن للولايات المتحدة وموقعها المركزى فى الناتو. ولا جدال فى أن الولايات المتحدة هى الطرف الأكثر أهمية فى الحلف، وهى المعنية فى المقام الأول بوضع المادة (5) من المعاهدة المنشئة له، التى تنص على أن الهجوم على أحد أعضاء الحلف هو هجوم على الجميع، موضع التنفيذ. وعندما انهار الاتحاد السوفيتى بنهاية عام 1991، كانت قضية الإبقاء على الحلف وتوسيعه شرقا على رأس أولويات الولايات المتحدة الأمريكية خلال المفاوضات التى جرت فى تلك الفترة مع قادة الاتحاد السوفيتى، قبل أسابيع قليلة من انهياره، حول مسألة توحيد ألمانيا.
وتدرك روسيا بوتين هذا الواقع تماما، ولذا فهى تؤكد دائما أن الولايات المتحدة، وليس أوروبا، هى من بيدها مفتاح تسوية القضايا المتنازع عليها وليس الشركاء الأوروبيين، الذين لا تتوقع موسكو منهم الأخذ بزمام المبادرة. ولا ننسى أن مطالب موسكو فى المفاوضات التى سبقت الحرب فى أوكرانيا تقدمت بها للولايات المتحدة الأمريكية دون غيرها. كذلك لا يجب تجاهل حقيقة أن الولايات المتحدة هى من قام بدعوة أوكرانيا وجورجيا لحضور قمة الناتو فى بوخارست فى أبريل 2008، الأمر الذى اعترضت عليه كلٌ من ألمانيا وفرنسا آنذاك، إلا أن الدولتين فشلتا فى منع واشنطن من إدراج نص فى إعلان القمة يقول إن أوكرانيا وجورجيا «ستصبحان عضوين فى حلف شمال الأطلسى».
مدير المجلس المصرى للشئون الخارجية