قوة لبنان الناعمة
بشير عبد الفتاح
آخر تحديث:
الإثنين 7 سبتمبر 2020 - 6:55 م
بتوقيت القاهرة
خلافا للبنان الذى يأسى عليه العالم بعدما غدا قاب قوسين أو أدنى من التحول إلى دولة فاشلة، وغير بعيد عن تصريح لودريان وزير خارجية فرنسا بأن «لبنان يواجه خطر الزوال ما لم يتم تشكيل حكومة سريعة تتبنى إصلاحات عاجلة»، صادف الرئيس الفرنسى ماكرون لبنانا مغايرا إبان زيارته الثانية لهذا البلد المأزوم فى أقل من شهر واحد للمشاركة فى الاحتفال بمئوية «لبنان الكبير». فوراء غيوم الانسداد السياسى وأصداء الانهيار الاقتصادى وحطام تفجيرات مرفأ بيروت، مضى ماكرون يتلمس عبق قوة لبنان الناعمة، الذى يفوح متسللا بين طرقات دروبها الحزينة ويتجلى على استحياء من سفوح جبالها الرواسى الشامخات.
فبعدما اختتم سابقتها فى السابع من ذات الشهر، بتغريدة تويترية عنونها بعبارة «بحبك يا لبنان» مستعيرا اسم أغنية شهيرة لفيروز طالما أدمت قلوب اللبنانيين طيلة 15 عاما من الحرب الأهلية، استهل ماكرون زيارته الثانية لبيروت نهاية الشهر المنقضى بلقاء ودى بمنزل فيروز «جارة القمر» ونجمة العرب الأولى بلا منازع طيلة نصف قرن، بعدما غيب الموت سيدة الغناء العربى أم كلثوم عام 1975، وفقا للوثائقى الذى أخرجه المبدع الفرنسى فريديك ميتران، وصاحبة الصوت الذهبى، والسحر الذى يحلق فى الآفاق بفضل المعجزة الربانية التى ينتابك شعور وأنت تسمع غناءها بأنك فى الجنة»، حسب جاك لانج أحد أشهر وزراء الثقافة الفرنسيين.
بهذا اللقاء التاريخى، دحض ماكرون جميع الشائعات المغرضة والادعاءات المغلوطة حول صحة القيثارة، والتى بلغت حد إعلان وفاتها عن 86 ربيعا، حينما وصفها بأنها «جميلة وقوية للغاية كما تشكل أملًا للجيل الجديد بكل ما تحمله من لبنان الحب والحلم»، متعهدا أمامها وأمام الشعب اللبنانى قاطبة بألا يترك هذا البلد المكلوم وأن يبذل كل جهد حتى تطبق الإصلاحات ويحصل على ما هو أفضل. وتقديرا منه لتاريخها الفنى الزاخر ودورها التنويرى البارز، كلل ماكرون حزمة الأوسمة الفرنسية التى نالتها «جارة القمر» كوسام قائد الفنون والآداب من الرئيس الفرنسى الراحل فرانسوا ميتران عام 1988، ووسام فارس جوقة الشرف من الرئيس جاك شيراك عام 1998، بتقليد نجمة العرب الأولى وسام «جوقة الشرف» الفرنسى، وهو أعلى تكريم رسمى فى فرنسا، فيما أهدت فنانة العرب ضيفها وضيف لبنان لوحة فنية على شكل مجسم من خشب الأرز محفور عليه اسمه. وبينما بدأ زيارته للبنان بلقاء تاريخى مع فيروز، آثر ماكرون أن ينهيها بآخر مع ماجدة الرومى بقصر الصنوبر ببيروت، أعرب خلاله عن أمله فى تعزيز أواصر التعاون الفنى بين لبنان وفرنسا، بينما وجهت ماجدة الشكر للرئيس الفرنسى مبدية استعدادها التام لتسخير فنها لمساعدة لبنان على النهوض من كبوته.
لم يفوت ماكرون فرصة تتويج زيارته الثانية للبنان بزراعة شجرة أرز بمحمية بيروتية، فى تقليد دبلوماسى عتيق، يؤكد على الصداقة بين البلدين ويحمل مضامين تشى بمنح أسباب البقاء بطريقة سهلة وبأدوات وموارد بسيطة وجهد يسير، كما يشير إلى استمرار الحياة والتطلع إلى مستقبل أفضل من خلال رسم مسار تاريخى جديد. وربما كان ماكرون متأثرا بالمسيرة الإبداعية للأدب الفرنسى بهذا الصدد، كرواية جان جيونو، المعنونة «الرجل الذى يزرع الأشجار»، التى ألفها أواسط القرن الماضى، وتناول فيها قصة فلاح فقير زرع غابة بمنطقة الألب الفرنسية خلال الفترة ما بين الحربين العالميتين بعدما كسا الجبل بالخضرة عبر آلاف الاشجار، ليتحول لاحقا إلى مزار سياحى خلاب بعدما كان أرضا جرداء، فى رسالة تحض الإنسان على ضرورة العمل لأجل غده وغيره دونما تعجل للاستئثار بحصد الثمار، التى ربما تكون من نصيب آخرين فى أجيال تالية متعاقبة، وفيكتور هوجو الذى أضفى على زراعة شجرة الحرية فى باريس عام 1848 سمتا دينيا حينما أرجع إلى السيد المسيح فضل زراعة أول شجرة للحياة، وقتما ضحى بنفسه من أجل الحرية والمساواة والأخوة والسلام بين بنى الإنسان، وهى ذاتها المبادئ التى استلهمتها الثورة الفرنسية وطفقت تنشرها لاحقا.
هكذا إذن أدرك ماكرون، بحسه المعرفى الإبداعى، خصوصية العلاقة بين لبنان وشجر الأرز، والتى تضرب بجذورها فى أعماق تاريخ يمتد إلى زمن الفينيقيين، كما تمت الإشارة إليها غير مرة فى التوراة والإنجيل، حتى أضحى شجر الأرز رمزا وطنيا للجمهورية اللبنانية التى يتوسط علمها، كيف لا؟ وهو يحمل معانى الخلود والصمود، فلدى شجرة الأرز قدرة خارقة على مقاومة الأمراض والبقاء إلى ما يقارب الـ 3000 سنة، حيث تتمتع بنظام دفاعى ذاتى فريد، فعندما تتعرض لهجوم من الآفات تقوم بإنتاج براعم بديلة عن الأوراق والأغصان المصابة لتتعافى وتنمو وتنتصب وتعاود حياتها من جديد. وهو ما يأمل ماكرون ومن ورائه اللبنانيون والعالم أجمع أن يفعله لبنان اليوم، بحيث يتمكن من عبور أزمته وينجح فى تحويل المحنة إلى منحة.
وبقدر ما بدا ماكرون ممتنا ومنتشيا إزاء رموز قوة لبنان الناعمة، لاح صارما حيال طبقتها السياسية غير المسئولة. ففى ختام زيارته، دعا رئيس الجمهورية ورئيس البرلمان ورئيس الحكومة المكلف والقوى السياسية لحضور مؤتمر باريسى خلال النصف الثانى من شهر أكتوبر المقبل لتقييم الخطوات المنجزة فيما يخص خارطة الطريق الفرنسية، على أن يواكب ذلك تحضير لمؤتمر دولى بالتعاون مع الأمم المتحدة لدعم لبنان. بيد أن الرئيس الفرنسى لم يتورع عن تحذير النخبة السياسية اللبنانية من عواقب وخيمة حالة عدم تنفيذها لتعهداتها والتزاماتها إزاء وطنها وشعبها بتسهيل تأليف الحكومة الجديدة برئاسة السفير مصطفى أديب خلال 15 يوما وتنفيذ خارطة الطريق، التى ستتحول إلى البيان الوزارى، كونها تتضمن إصلاحا شاملا يطال البنك المركزى والنظام المصرفى والقضائى ومكافحة الفساد خلال ثمانية أسابيع، ليتم فى ضوئها تأمين دعم مالى للاقتصاد المهترئ.
ففى حديث لصحيفة «بوليتيكو»، أشار ماكرون إلى ما أسماه «الرهان المحفوف بالمخاطر» على إحداث اختراق فى الوضع اللبنانى المعقد، مشددا على أن الأشهر الثلاثة المقبلة تعد مصيرية لجهة التغيير الحقيقى فى لبنان، وإلا ستتجمد المبادرة الفرنسية المدعومة أوروبيا ودوليا، ويتم فرض عقوبات على مسئولين لبنانيين تورطوا فى عمليات غير شرعية وأنشطة غير قانونية. غير أن هذا الحزم الماكرونى لم يكن كفيلا بتهدئة مخاوف أوساط لبنانية ودولية جراء تجاهل المبادرة الفرنسية لمعضلة سلاح «حزب الله»، الذى تحمله هذه الأوساط نصيب الأسد من المسئولية عن وصول لبنان إلى حافة الهاوية، لاسيما أن خارطة الطريق الفرنسية المدعومة دوليا تخلو من أية ضمانات جادة للحيلولة دون هيمنة الحزب ورعاته على الدعم الخارجى المرتقب للبنان، أو تعويقه للإصلاحات المرجوة.
وما كاد ماكرون ينهى زيارته الثانية لبيروت، حتى أعلن البابا فرنسيس بابا الفاتيكان عقب تقبيله العلم اللبنانى الذى قدمه إليه القس اللبنانى جورج بريدى، يوم الجمعة التالى مناسبة للصلاة والصوم من أجل لبنان فى بيروت، أناب عنه فيها وزير خارجيته الكردينال بيتروبارولين، مؤكدا أن «لبنان يمثل شيئا أكثر من دولة، فهو رسالة حرية، ومثال على التعددية بين الشرق والغرب، فمنذ أكثر من مائة عام، كان لبنان بلد الرجاء، حتى فى أحلك فترات تاريخهم، حافظ اللبنانيون على إيمانهم بالله وأظهروا القدرة على جعل أرضهم مكانا فريدا للتسامح والاحترام والتعايش فى المنطقة، ومن أجل خير لبنان وخير العالم أجمع لا يمكننا أن نسمح بضياع هذا التراث. وناشد البابا فرنسيس جميع اللبنانيين الاستمرار فى الرجاء واستحضار القوة والطاقة اللازمتين للبدء من جديد، فيما طالب القادة السياسيين والدينيين اللبنانيين بالتزام الصدق والشفافية فى أعمال تشكيل الحكومة وإعادة الإعمار، والتخلى عن المصالح الحزبية والنظر إلى الخير العام ومستقبل الأمة. كما دعا المجتمع الدولى إلى مساعدة لبنان على تجاوز مآسيه.
من ثنايا زيارات الرئيس الفرنسى المتتالية للبنان ومبادرته المدعومة دوليا لإنقاذه، وصلاة بابا الفاتيكان وتعبئته العالم لذات المقصد، تلوح قوة لبنان الناعمة كمصدر جذب عالمى. تلك القوة التى قدمها للعالم كمصطلح سياسى فى عام 1990 جوزيف ناى؛ أستاذ العلوم السياسية بجامعة هارفارد، فى مقال له بفصلية «شئون خارجية» الأمريكية، ثم أصل لها فى مؤلفه المعنون «القوة الناعمة وسيلة النجاح فى السياسة الدولية»، معرفا إياها بأنها السلطة المعنوية المتمثلة فى القدرة على تشكيل تفضيلات الآخرين، من خلال الإذعان المنبعث من جاذبية شخصية القيادة، والثقافة، والمؤسسات والقيم السياسية، والسياسات التى يراها الآخرون مشروعة أو ذات سلطة معنوية أخلاقية، ثم ما لبث ناى أن طور المصطلح فى عام 2007، بالتعاون مع ريتشارد أرميتاج ونخبة فكرية متميزة، بإنتاج مصطلح «القوة الذكية»، الذى نظَر له فى كتابه «مستقبل القوة»، ودعا خلاله الدول الراغبة فى بلوغ مراميها إلى المزج بين القوة الصلبة والقوة الناعمة فيما يعرف بالقوة الذكية.
تستوجب نهضة الأمم إذن توسيع مفهوم القوة الناعمة ليشمل مختلف الآليات التى تمكن الدولة، بغير صدامات عسكرية قدر المستطاع، من التأثير فى الآخرين، وجذبهم إليها، بل واتخاذها كنموذج، ومن أبرز هذه العناصر: الرسالة الحضارية والثقافية التى تتبناها الدولة، متمثلة فى منظومة القيم والمبادئ والأفكار الكبرى التى تؤمن بها، وتجسيد نظامها السياسى لأسس الحكم الرشيد الذى يتسم بالفعالية والكفاءة، فضلا عن النموذج التنموى الذى يلبى الاحتياجات الأساسية للمواطنين، ويحقق العدالة الاجتماعية، علاوة على جودة النظام التعليمى، وكفاءة وسائل الإعلام، ورقى المنتج الفكرى والفنى، وحكمة المؤسسات الدينية.
تبقى الدول، مهما بلغت من ثراء مبهر فى ركائز القوة الناعمة البراقة، فى مسيس الحاجة الملحة والأبدية إلى تحصيل أكبر قدر ممكن من مختلف مظاهر القوة الشاملة، ذلك أن تطلع الدولة المتواصل لترسيخ دعائم أمنها وسيادتها، وسعيها الدءوب لإدراك التنمية الشاملة والمستدامة، يحتاجان باستمرار لما هو أمضى من بأس القوة الصلبة وأبعد من مجال جاذبية القوة الناعمة.