مجتمع خال من العنف
عزة كامل
آخر تحديث:
الأربعاء 7 أكتوبر 2009 - 10:56 ص
بتوقيت القاهرة
ذهبت منذ ثلاثة أيام إلى إحدى المحافظات المصرية أزور مركز استماع للنساء المعنفات الذى تتبناه إحدى المنظمات الأهلية. وصلت مبكرا، وصعدت إلى الطابق الأول بالمركز. توجهت إلى حجرة الاجتماعات، كان الباب مفتوحا وهناك وجدتها جالسة فى صمت، شعرت بأنى أسمع خشخشة نبضها تمرق عبر جسدها الناحل ويحفر فى قلبى آهة مكتومة. انتفضت عندما رأتنى، مددت يدى لأصافحها.
ترددت ثم مددت أصابعها ذات الأنامل الباردة الرقيقة، شددت على يدها وألقيت السلام.
كان لوجهها المبلل بالدموع جماله.. قلت لها: كيف أستطيع أن أساعدك؟
قالت بتنهد: المساعد ربنا.. لقد رأيتك فى التليفزيون الأسبوع اللى فات.. كلامك حلو.. لكن حتقدرى تساعدينى ولا ده كلام فى التليفزيون.
قلت لها: سنقدم لك كل ما نستطيع هنا.. فقط انتظرى قليلا ستأتى زميلاتى ليجلسن معك ويستمعن إليك ويقدمن لك المساعدة المطلوبة.
قالت: أريد أن أحكى لك أنت.. وضعت يدى على كتفها.. قلت لها: اطمئنى.. كلى آذان صاغية.
«تزوجت من أربع عشرة سنة، وأنا عمرى 15 سنة سكنت مع أسرته تحملت العذاب والإهانة والحط من كرامتى.. زوجى يسبنى ويشتمنى ويضربنى أمام ابنى وابنتى، وتأتى حماتى وتكتمل سلسلة الإهانة فتكيل لى أقذر الشتائم وتضربنى بالشبشب، وتقول لى أبوك لم يربك سأقوم أنا بتربيتك وتأديبك. ومنذ خمس سنوات ازداد مقدار العنف الموجه إلىّ، فأنا فى نهاية كل يوم أكون متعبة، منهكة.. أشعر بجسدى كأنه جثة هامدة، يأتى زوجى يريدنى آخر الليل، وعندما امتنع يمسكنى بالقوة ويغتصبنى، وتأتى حماتى فى الصباح وتمسكنى من شعرى وتقول لى: حأجوزه يا بنت.....، عايزه تحرميه من حقه الشرعى.
أما أخوه الذى يصغره بعشر سنوات فيتحرش بى فى أى فرصة تسنح له، وفى المرة التى اشتكيت فيها ضربنى زوجى وضربتنى حماتى.. وطردونى إلى بيت أهلى، فما كان من أبى إلا أن أعادنى إلى بيت زوجى مرة أخرى، بحجة أننى «يجب أن أستحمل وان كل الستات بيضربوا وبيتحملوا. إحنا جوزناك علشان نرتاح منك مش علشان تقعدى فى خلقتنا».. وبعد معاناة وعذاب استمر سنين أخدت عيالى وهربت منهم كلهم.. معنديش مكان أروح فيه.. جئت هنا.. عرفت من جارتى إنكم بتساعدوا الستات اللى زيى.. أنا مش عايزة ارجعلهم ثانى.. ممكن أشتغل خدامة.. أشتغل أى حاجة.. أرجوك ساعدينى».
كان فى حكايتها رائحة لاحتراق دفين، لا مكان فيه لرائحة الحنين فلا يوجد فى عمرها المنقضى شيئا تحن إليه، فقط تبحث عن ملتجأ تلوذ به.
حضرت زميلاتى وأكملنا الحديث وطرحنا عليها بعض الخيارات، استأذنت منهن واتجهت إلى حجرة المكتبة ها أنا أجلس أفكر فى أمرها لكى لا أنسى مسئوليتى، سأفتح باب الصمت وأرمى بهذا الحديد الثقيل الذى يحز عنقى، فهناك الآلاف من النساء اللواتى يتعرضن للعنف ولا يملكن حتى حق البوح.. أو رفاهية تنفيس، أو العثور على صدر يهدهد رجفة الأصوات، اغتراب اجتماعى واغتراب جسدى لا ينتهى.
كيف أبدأ.. فالبداية مستعصية مستغلقة.. لكن لا بأس فهديرى المكتوم آن له أن يتدفق.
العنف ضد المرأة فضيحة مدوية لحقوق الإنسان، فالمرأة تواجه التمييز والعنف من المهد إلى اللحد وفى أوقات الحرب وفى حالة السلم، على أيدى الدولة والمجتمع والأسرة، وتتعرض النساء والفتيات للضرب والاغتصاب وتشويه الأعضاء الجنسية والقتل ويفلت الجناة من العقاب.
إن جذور العنف ضد النساء هو مظهر من مظاهر علاقات القوى غير المتكافئة على مدى التاريخ بين الرجل والمرأة، مما أدى إلى التمييز ضدهن وحرمانهن من المساواة مع الرجل فى جميع مناحى الحياة. فالعنف يقوم أصلا على التمييز ويعمل فى الوقت نفسه على تعزيز هذا التمييز، حيث يمنع النساء من ممارسة حقوقهن وحرياتهن على أساس من المساواة مع الرجل.
وتكشف الإحصائيات القومية والدولية الخاصة بالعنف ضد المرأة عن كارثة عالمية فى مجال حقوق الإنسان:
يشير التقرير رقم (9) الصادر من مركز الأرض لحقوق الإنسان بمصر والذى يهدف إلى التعرف على العنف الموجه ضد النساء من خلال رصد وتحليل مضمون الصحف المصرية خلال ستة أشهر من عام2007، أن جملة حوادث الانتهاكات والعنف ضد المرأة المصرية بلغت (412) حالة وشكلت حوادث الخطف والاعتداءات الجنسية على النساء سواء داخل الأسرة أو من المجتمع (96) حالة، كما بلغت حوادث قتل النساء (41) حالة، وشكل العنف الأسرى الموجه للنساء (54) حالة، وبلغت الخلافات الزوجية (83) حالة وأتى الإهمال فى الرعاية الصحية للنساء ليمثل (44) حالة، وشكل انتحار النساء (33) حالة، وقد أدى العنف إلى وفاة وقتل العديد من النساء فى هذا الرصد فمن جملة (412) حالة عنف قتلت (220) امرأة.. وجاء بعضها بسبب العنف الأسرى، أو بسبب قتل النساء المتعمد، والخلافات الزوجية أو بسبب إهمال فى الرعاية الصحية.
أفاد المسح السكانى الصحى ــ مصر 2008 أن 39% من السيدات وافقن على أن عاملا واحدا على الأقل من تلك العوامل يكفى كمبرر لضرب الزوجة، وهذه العوامل هى (إذا خرجت دون أن تخبره، أهملت الأطفال، جادلته، رفضت ممارسة الجنس معه، حرقت الطعام)، ويعد الخروج بدون إخبار الزوج وإهمال الأطفال (32% و29% على الترتيب) أهم المبررات لأنه يضرب الزوج زوجته.
تفيد دراسة تقوم على نتائج 50 مسحا ميدانيا من شتى أنحاء العالم بأن امرأة واحدة على الأقل من كل ثلاث تعرضت فى حياتها للضرب أو للإكراه على ممارسة الجنس أو غير ذلك من الانتهاكات. عادة ما يكون مرتكب الانتهاكات أحد أفراد أسرتها أو شخصا تعرفه.
أفاد المسح الديمقراطى والصحى فى مصر 1995 إلى أن امرأة من بين كل ثلاث نساء تعرضت للضرب من زوجها فى العام السابق على المسح.
أفادت «مقررة الأمم المتحدة المعنية بالعنف ضد المرأة» بأن النساء مثلن 85 فى المائة من ضحايا العنف فى محيط الأسرة فى الولايات المتحدة فى عام 1999 (671110 مقارنة مع 120100 من الرجال).
ذكرت منظمة الصحة العالمية بأن قرابة 70% فى المائة من ضحايا جرائم القتل من الإناث يقتلن على أيدى رفاقهن الذكور.
وفى دراسة مقارنة شملت 16 بلدا قامت بها منظمة الصحة العالمية خلص الباحثون إلى أن مستويات التعرض للعنف على يدى الرفيق الحميم تكون أقل ما يمكن فى المجتمعات، التى تتوافر فيها أطر رادعة على المستوى الجمعى سواء فى صورة الإجراءات القانونية أو التوافق الاجتماعى أو الضغوط الأدبية وأطر الرعاية (البيوت الآمنة أو أنظمة دعم الأسرة).
وهناك كثير من المعتقدات التى تروج أو تقبل العنف من ضمنها أن الشجار العائلى والضرب هو من سمات غير المتعلمين والفقراء والمنتمين إلى طبقات اجتماعية متدنية، العنف الأسرى ظاهرة جديدة يسببها التغيرات الاقتصادية والاجتماعية فى الحياة الحديثة والضغوط الاجتماعية الجديدة وأن أفعال النساء وسلوكياتهن تستفز ممارسة العنف ضدهن، فالزوج يضرب زوجته لأنها لا تطيعه أو تفعل شيئا خاطئا، والرجل الذى يمارس العنف عادة ما يكون سكيرا أو مدمنا للمخدرات أو مريضا عقليا، ولكن هؤلاء يتغاضون عن حقائق دامغة تقوض اعتقاداتهم فالعنف ضد النساء يحدث فى كل مكان وبين جميع الطبقات الاجتماعية وعادة ضرب الزوج من العادات القديمة قدم الزواج ذاته.
أن العنف ضد المرأة لا يمكن أن يكون طبيعيا أو قانونيا أو مقبولا على الإطلاق ويجب ألا يتم التسامح معه أو تبريره أن مسئولية وضع حد له وإنصاف ضحاياه تقع على عاتق الجميع الأفراد والمجتمعات والحكومات والهيئات الدولية.
وعلى الرغم أن الجماعات النسائية قطعت خطوات هائلة فى الكفاح من أجل أعادة والتحرر من التمييز والعنف إلا أنه على مدى السنوات العشرين الأخيرة بذلت بعض الحركات الثقافية والدينية والعرقية فى الكثير من إنحاء العالم جهودا منسقة لمحو هذا التقدم وإعادة فرض ما تراه أدوارا تقليدية، وكثيرا ما تبرر هذه الحركات العنف ضد المرأة، وتلتمس له العذر باسم الدين أو الثقافة أو التراث أو التقاليد.
تخيلوا معى عالما خاليا من العنف ضد النساء والفتيات، عالم تستطيع أن تسير النساء فى طرقاته وشوارعه ليلا من دون أن يعتقدن أن الرجال، الذين يسيرون خلفهن يشكلون تهديدا، عالم لا يضرب فيه الزوج زوجته لأنها حرقت الطعام، أو خرجت لتتنسم الهواء، أو أرادت أن يكون لها قرار، عالم لا يتحرش فيه الرجال بالنساء، وتقوم علاقتهم على الحب والصداقة والاختيار، عالم لن تكون هناك ضرورة فيه لوجود مراكز لجوء للنساء ومراكز للتأهيل النفسى ضد العنف والاغتصاب.
أفقت على صوت زميلاتى: لقد أرادت (س) أن تسلم عليك سنذهب بها إلى «البيت الآمن»، وسنمر لنأخذ طفليها من غرفة الحارس».
ودعتها، نظرت من النافذة، فى منعطف الشارع رأيت أخر لمحة منها، مضت مغتربة، ما زلت أسمع قلبها بين كفى ينبض وبقايا دموعها تترقرق بين انكسار الضوء والتمتمات الأخيرة، مما جعلنى أرى ظلال كل وجوه النساء، اللاتى ما زال بريق عيونهن يصرخ طلبا للحماية والنجاة، تمضى الصور أمامى، وتمضى الحياة.
هنا بيننا وبين حريتنا نحن النساء آلاف الأميال، وبين ما نأمله وما نحن فيه، أزمنة فاصلة ولكن طريقنا لم تفارقه الخطى، ففى خطانا نمسك الشمس بأيدينا ونضع القمر بين جوانحنا ونبصر فى مرايانا الفجر الوليد ونصغى لسريان النسخ فى أشجارنا، التى جفت لتورق من جديد، وعلى الطريق ستسمع أصوات أقدام جديدة مسرعة كالخيل الأبية تنطلق نحو درب، تشعل فيه الريح والأمواج أنفاس الحرية وانتماءات اكتشاف الحقيقة، وسيرى الجميع ندى عيوننا يومض أغنية للحب والجمال لأننا نعمل من أجل مجتمع خالٍ من العنف والكراهية والإساءة