التراخى فى الفترة الانتقالية
طارق البشرى
آخر تحديث:
الجمعة 7 أكتوبر 2011 - 8:45 ص
بتوقيت القاهرة
(1)
فى 19مارس سنة 2011 استفتى الشعب استفتاء قانونيا صحيا نزيها وشريفا على عدة أحكام دستورية، وأعلنت نتيجة الاستفتاء فى 20 مارس سنة 2011 بالموافقة بأغلبية 77.2٪ على كل الأحكام الواردة بالاستفتاء. وفى 30 مارس صدر من المجلس الأعلى للقوات المسلحة الذى تولى السلطة الثورية فى البلاد ــ إعلان دستورى متكامل ينظم فترة الانتقال التى أشير إليها ورسمت لها الأحكام المستفتى عليها وبرنامجها الزمنى، وتضمن الإعلان الدستورى فى مواده كل الأحكام الواردة بالاستفتاء.
إن المجلس الأعلى للقوات المسلحة، تولى سلطة الحكم فى البلاد بموجب الشرعية الثورية التى أحدثتها ثورة 25 يناير 2011، وهو قد تولى هذه السلطة منذ أصدر بيانه الأول فى 10 فبراير واكتملت له السلطة بتنحى الرئيس المخلوع فى 11 فبراير 2011، وقد حل فى السلطة محل رئاسة الدولة التى آلت إليه ثوريا وبحل مجلسى الشعب والشورى الذى قرره استجاب لمطالب الثورة، وتسلم ناصية سلطتى التشريع والتنفيذ. وهو بموجب هذا الوضع صار بإمكانه تنظيم علاقات الحكم فى الدولة على ما جاء بالإعلان الدستورى الذى أصدره، ولكنه كان فقيرا فى إصدار هذا الإعلان بنتائج الأحكام الدستورية التى استُفتى الشعب عليها، فلا يستطيع أن يحيد عنها، لأنها إرادة شعبية صدرت بعد الثورة وبموجبها على وجه نظامى وديمقراطى، ولأنها هى ذاتها ما صار يستمد المجلس العسكرى شرعية حكمه منها، وهى من حدد لسلطته فترة انتقالية ببرنامج زمنى معين وبإجراءات سياسية لابد من اتخاذها. لقد عرض المجلس هذه الأحكام على الشعب طالبا الاستفتاء عليها، فوافق الشعب عليها على النحو السابق.
ولذلك فإن المجلس الأعلى بتوليه سلطة الحكم لا يستطيع أن يعدل من الأحكام المستفتى عليها ولا أن يخرج من البرنامج المرسوم بها من حيث الزمن والمواعيد ولا من حيث الخطوات السياسية، لأنه صار يكتب شرعية قيامه على رأس الدولة من هذا الاستفتاء ذاته مشروطا بأحكامه.
ونحن فى خضم العمليات السياسية التى تجرى الآن فى هذه المرحلة الانتقالية، علينا أن نعى ما هو مؤدى الوضع الدستورى القائم خلال هذه الفترة المؤقتة، وأهم ما يتعين أن نستصحبه من معانيها.
(2)
إن اللجنة التى أوكل إليها المجلس الأعلى إعداد مشروع تعديل الدستور بموجب القرار رقم 1 الصادر من رئيس المجلس الأعلى فى 14 فبراير 2011، تضمن قرار إنشائها طلبا من المجلس دراسة إلغاء المادة 179 من الدستور القائم وهى المتعلقة بالإرهاب، كما تضمن دراسة تعديل المادتين 76، 77 من هذا الدستور، وأولاهما تتعلق بشروط وإجراءات ترشيح وانتخاب رئيس الجمهورية، وثانيتهما تتعلق بمدة رئاسة الجمهورية ومدى جواز مدها، وكذلك تعديل المادتين 88 و93 وهما خاصتان بشروط العضوية لمجلس الشعب ولإجراءات الإشراف على الانتخابات البرلمانية والفصل فى صحة عضوية، ثم المادة 189 الخاصة بالأسلوب المعتاد لتعديل دستور قائم وإجراءات التعديل. وأجاز القرار للجنة تعديل الدستور إضافة ما يتصل بالمواد السابقة من مواد وأحكام ترى اللجنة ضرورة تعديلها «لضمان ديمقراطية ونزاهة انتخابات رئيس الجمهورية ومجلس الشعب والشورى» كما ذكر القرار أنها «تختص بدراسة التعديلات اللازمة للقوانين المتعلقة بالمواد الدستورية محل التعديل».
لذلك أضافت اللجنة إلى عملها خمس مواد دستورية أخرى أدخلتها على الدستور القائم، منها المادة 75 الخاصة بشروط تولى رئيس الجمهورية لكى تنتفى عنه شبهة ازدواج الجنسية واختلاط الانتماء، ومنها المادة 139 لكى تلزم رئيس الجمهورية بتعيين نائب له خلال أجل قصير وأن تتوافر فيه ذات الشروط. ومنها المادة 148 الخاصة بحالة الطوارئ لكى يكون لها حد أقصى فى المدة هى ستة أشهر وألا تجدد إلا باستفتاء شعبى، والمادة 189 مكرر أضيفت لكى لا يقوم مجال للشك بأن الوضع السياسى القائم هو وضع موقوت وهو فترة انتقالية وأنه يتعين وضع دستور جديد من خلالها حسب برنامج زمنى حددته المادة ورسمت زمانه وأن تشكل لجنة وضع الدستور بأسلوب ديمقراطى من مجلس برلمان حدث الانتخاب والتعبير عن الإرادة الشعبية التى هى نتاج ثورة 25 يناير، وأن يصدر هذا الدستور الجديد باستفتاء شعبى حددت المادة مدة إجرائه، ثم المادة 189 مكرر 1 التى تتعلق بحكم مؤقت يضمن أعمال مجلس الشورى بأعضائه المنتخبين فور انتخابهم، حتى يكتمل تشكيله بالتعيين بعد انتخاب رئيس الجمهورية
(3)
إن هذه الأحكام، سواء ما طلب المجلس الأعلى تعديله أو ما أضافته اللجنة، كانت تدور فى إطار الأحكام المتعلقة باختيار رئيس الجمهورية واختيار أعضاء مجلس الشعب والشورى، ولهذا سببه من وقائع ثورة 25 يناير، لقد كان من أهم ما أنتجته الثورة فى أيامها الأولى هذه، هو سقوط رئيس الجمهورية وحل مجلس الشعب والشورى، ورئاسة الجمهورية ومجلس البرلمان هما الهيئتان الوحيدتان من هيئات الدستور اللتان تمارسان العمل السياسى الداخلى والخارجى، سواء بالتنفيذ أو التشريع والرقابة، وكأنهما جوهر ما يعتور دستور 1971 من فساد ودكتاتورية، وأن إعادة الصياغة السياسية والدستورية هو من أهم ما قامت الثورة من أجله، لوضع أحكام جديدة لها ولإعادة صياغتها فى الواقع تحقيقا للتشكل المعبر عن الإرادة الشعبية الثورية.
أذكر أنه فى أول اجتماع للجنة تعديل الدستور، سألنى أحد الزملاء الأفاضل من أساتذة القانون بها، عن التصور العام لعمل اللجنة، فقلت له إن تصورى لعملها هو أن التشكيل الدستورى القائم الآن فاقد للمؤسستين السياسيتين وهى الرئاسة والبرلمان، وليس يقوم فيه الآن إلا القوات المسلحة والسلطة القضائية والحكم المحلى وهى هيئات لا تعمل بالسياسة، لا تقريرا ولا تنفيذا. وإن مؤسستى الرئاسة والبرلمان هما قلب الدولة، ونحن الآن نعمل على إعادة بنائها دستوريا، ليكون بناؤها بتنظيم ديمقراطى يعكس دائما الإرادة الشعبية، ونحن الآن فى مرحلة انتقالية، كما هو الشأن مع مريض تجرى له جراحة فى القلب، فيتحول الجسم أثناء الجراحة إلى قلب صناعى «أقصد المجلس الأعلى للقوات المسحلة» حتى تجرى الجراحة فى القلب الطبيعى، ثم تعود إليه الشرايين والأوردة من جديد، فسألنى هل أنت قلق، قلت له سيبقى الجميع قلقا حتى الطبيب نفسه وحتى يعود الجسم الحى إلى قلبه الطبيعى.
لابد أولا أن يتحدد أننا فى مرحلة انتقالية، ولا ينحسم هذا الأمر إلا بأن ينص على وجوب إعداد دستور جديد فى فترة زمنية محددة سلفا وبإجراءات مرسومة سلفا، وهذا ما أضافته اللجنة إلى التعديل الدستورى المطلوب، ما أضافته المواد التى أضيفت ومنها المادة 189 مكرر 1 مع الفقرة الأخيرة من المادة 189 المعدلة. واستلزمت الصياغة التشريعية الفنية أن يوضع الحكم فى هذين النصين باعتبار أن ما كان يجرى هو تعديل لأحكام دستور 1971.
وأن أهم ما كان يتعين الحرص عليه أيضا، هو أن يجرى إعداد الدستور الجديد فى مناخ ديمقراطى حقيقى، وفى ظل برلمان منتخب انتخابا نزيها ومحايد بما ينتج عنها من تعبير عن إرادة شعبية حقيقية هى وليدة ثورة 25 يناير بزخمها الحاصل، وفى ظل رئاسة دولة منتخبة أيضا انتخابا ديمقراطيا نزيها. والحق أن المجلس العسكرى كان مقتنعا بهذا النظر.
(4)
إن التعديلات الدستورية التى طلبها المجلس العسكرى وما أعدته اللجنة فى هذا الشأن، قد طرح للاستفتاء الشعبى فى 19 مارس 2011، وهو يؤكد أنها فترة انتقالية تنتهى بإعداد دستور جديد فى زمان محدد، وهو يؤكد فى الوقت نفسه أن ما ينظمه من تشكيل للمؤسسات السياسية إنما يتعلق بعين هذه الفترة الانتقالية، وهو يؤكد أن هذه المؤسسات السياسية التى ينظمها بهذه المرحلة الانتقالية لابد أن تتكون على أساس ديمقراطى بإرادة شعبية حرة نزيهة تشكل المجلس النيابى وتختار رئيس الجمهورية. وذلك كله حتى يولد الدستور الجديد من أحشاء سياسية مشكلة تشكيلا ديمقراطيا وممارسة فعلا للعمل الديمقراطى ومعبرة فعلا عن إرادة شعبية. وأن الدستور الجديد وشأنه فيما يقرره من بقاء هاتين المؤسستين فى ظل لتستكمل مددها الدستورية أو أن يوصى بإجراء انتخابات جديدة لها أو لأيهما، ولكن المهم أن تكون كلتا مؤسستى الرئاسة والبرلمان تتشكل على نحو ديمقراطى فى فترة وضع هذا الدستور.
إن مفاد ذلك من الناحية القانوية، أن المشروع الدستورى الصادرة أحكامه باستفتاء شعبى قد حرص أن تجرى انتخابات رئيس الجمهورية فى ذات الفترة الانتقالية التى يوضع فى أثنائها الدستور الجديد، لتكون كلتا المؤسستين السياسيتين التشريعية والتنفيذية مشكلتين تشكيلا ديمقراطيا ونيابيا كاملا أثناء فترة وضع هذا الدستور.
(5)
نقطة أخرى، فقد كان من المتصور عند إعداد التعديلات الدستورية خلال النصف الثانى من شهر فبراير وحتى طرحها بنصها للاستفتاء فى 19 مارس 2011، أن انتخابات مجلسى الشعب والشورى ستجريان فى شهر يونية 2011، بمعنى أن السلطة التشريعية المنتخبة ستكون قائمة ضمن هذا الشهر، وهى فضلا عن أنها من سيختار الجمعية التأسيسية التى تضع الدستور الجديد فى مدة أقصاها ستة أشهر لذلك، ومدة أخرى لوضع الدستور ذاته، ثم يستفتى بحله خلال أسبوعين وكل ذلك يبدأ من شهر يونية 2011، كما أنها فى هذا التاريخ السابق على السنة المالية للدولة بشهر ستكون هى من يصدر ميزانية الدولة لسنة 2011 ــ 2012 وتتحدد بذلك السياسة المالية لمصر تحت بصر الهيئة التشريعية الجديدة المنتخبة، ثم هى من سيتولى إعداد التشريعات التى يحتاجها المجتمع وتحتاجها الثورة الشعبية لإعادة تنظيم المجتمع وأجهزة إدارته فى الدولة وفى المجتمع المدنى.
ثم إنه من هذا التاريخ سيبدأ طرح انتخابات رئيس الجمهورية لتجرى خلال شهرى أغسطس وسبتمبر على أكثر تقدير، وكل ذلك يجرى خلال الشهور الستة التى حددها المجلس الأعلى للقوات المسلحة فى بياناته الأولى الصادرة عن شهر فبراير 2011، أذكر ذلك كله لأوضح كم من الوقت الثمين ضاع علينا حتى صرنا فى شهر أكتوبر لم نتزحزح خطوة واحدة عن شهر فبراير أو مارس الماضيين، أضعنا هذا الوقت فى أحاديث صارخة صاخبة عن مدنية الدولة أو دينيتها، وحول انتخابات الرئيس أولا قبل البرلمان فلم يجرى هذا ولا ذلك. وحول الدستور أولا قبل الانتخابات فلم يتم هذا ولا ذلك، وحول مجلس رئاسى مجهول الهوية مجهول الأشخاص مجهول طريقة التشكيل، مجهول كل ذلك من المطالبين به، ليستبدل بمجلس عسكرى شارك فى الثورة وحسم مسألة السلطة السياسية بوقوفه مع الشعب وبوعده الصادق بتسليم السلطة إلى مؤسسات ديمقراطية منتخبة.
المهم الآن من الناحية القانونية التشريعية، أنه يتعين أن نعرف أن التصور الدستورى الذى قام على أساسه التعديل الدستورى المستفتى عليه استفتاء ملزما للكافة، هو أن يجرى انتخاب رئيس الجمهورية بعد انتخابات البرلمان ويكون ذلك خلال فترة تشكل الجمعية التأسيسية التى ستضع الدستور الجديد وخلال فترة إعداد هذا الدستور ينشأ دستور مصر المرتقب فى إطار مؤسسات سياسية ديمقراطية تشكلت فى أثناء المد الثورى الشعبى بانتخابات حرة نزيهة.
(6)
لذلك عجبت كثيرا من أن البيان الذى صدر أخيرا ووضعه عدد من الأحزاب ذوى الوجود المعتبر يبلغ ثلاثة عشر حزبا، قد انتهى إلى برنامج زمنى يسبق إعداد الدستور الجديد وإصداره انتخابات رئيس الجمهورية، ويتراخى فيه اختيار رئيس الجمهورية ومعركة انتخابه إلى ما بعد المرحلة الانتقالية، ومعنى ذلك أن تبقى المرحلة الانتقالية ممتدة من حيث السلطة الاستثنائية فيها طوال وقت إعداد الدستور الجديد، ويتم هذا الإعداد فى ظل سلطات استثنائية.
وإذا كان رئيس الجمهورية سينتخب وتجرى إجراءات اختباره فى ظل الدستور الجديد الذى سيوضع فى المستقبل، فلماذا تضمنت الأحكام الدستورية الصادرة بالاستفتاء الشعبى فى 19 مارس نصوصا وأحكاما تنظم شروط وإجراءات ترشيح وانتخاب رئيس الجمهورية. وهل كانت هذه الأحكام لغوا وعبثا. واللغو لغة هو ما لا يقر ولا ينفع والعبث هو ما لا يحمل محمل الجدية فى الالتزام والتنفيذ. ونحن نعرف أن المشرع فيما يشرع من أحكام يتنزه عن اللغو والعبث، لأنه يقول كل ما يقصده ويقصد كل ما يقوله. وتكتسب الدلالة التشريعية جديدة خصوصا عندما تكون دستورية وصادرة بإرادة شعبية فى استفتاء سليم ملزم.
إن هذا التراخى فى انتخابات الرئاسة يخالف التصور الذى كان قائما لدى المجلس الأعلى للقوات المسلحة عندما طلب دراسة تعديل أحكام الدستور المتعلقة بمواد دستورية تتعلق بترشيح رئيس الجمهورية وانتخابه، وعندما طلب طرحها للاستفتاء وطرحها فعلا على الشعب. وعندما ضمنها الإعلان الدستورى الذى صدر منه بعد ذلك والذى يرسم أوضاع المرحلة الانتقالية وما يتعين أن يمارس فيها وينشأ.
تخلص من ذلك إلى ما يلى:
ــ ثمة تراخ فى تنفيذ برنامج المرحلة الانتقالية بحيث جاوزنا مدتها دون أن تبدأ فى إنجاز ما كان يتعين إنجازه فيها، وهو موعد ستة الأشهر من فبراير 2011 أو من مارس 2011.
ــ ثمة مخالفة للأحكام الدستورية الصادرة من المجلس الأعلى والمستفتى عليها شعبيا والتى توجب انتخابات مؤسسات الدولة السياسية بما يشمل رئاسة الجمهورية ومجلس البرلمان خلال المرحلة الانتقالية. أى قبل تمام إعداد الدستور الجديد ولينشأ هذا الدستور فى ظل مؤسسات ديمقراطية سياسية.
ــ ثمة مخالفة لأحكام الدستور بالإعلان عن بقاء حالة الطوارئ بعد انتهائها بنص دستورى صحيح وصريح وملزم.
إننى أقدر تماما الجهد المهم والتاريخى والجليل الذى قام به ويقوم به المجلس الأعلى للقوات المسلحة، وتدخله التاريخى المقدر فى الحفاظ على الثورة ومعناها وأهدافها الوطنية والديمقراطية، وأقدر أن كل هذه الوثائق الدستورية المشار إليها فيما سبق كان حاضنا لها ومزكيا وداعما. وأن جزءا مهما من التراخى فى الإنجاز كان يرجع إلى هذا الصخب العجيب الذى اعتلى ساحة الحوار السياسى فى منابر الإعلام، فأذهل كل ذى شأن عن شأنه.
حفظ الله مصر وألهمها الرشاد.