أستاذ كورى.. يفتح النار على الخصخصة
جلال أمين
آخر تحديث:
الثلاثاء 7 أكتوبر 2014 - 8:10 ص
بتوقيت القاهرة
للأفكار الاقتصادية سوق مثلما للسلع والخدمات، فيصيب الرواج بعض الأفكار فى بعض الأوقات، ثم يصيبها الكساد وتظهر غيرها وتروج ثم تكسو بدورها وهكذا. وفى سوق الأفكار الاقتصادية «موضات» مثلما نرى فى حالة السلع كالملابس والسيارات، فتميل أذواق الناس لفكرة دون غيرها، ثم يهجرونها إلى غيرها، بل وكثيرا ما يكون الهجر من فكرة إلى عكسها بالضبط، فيرفض الناس فكرة ويهاجمونها، ناسين أنها كانت منذ وقت قصير، فكرة مقبولة بل وشائعة.
من الأمثلة على ذلك ما حدث بين الخمسينيات من القرن الماضى والسبعينيات. ففى الخمسينيايت والستينيات كانت فكرة قيام الدولة بتأميم بعض الصناعات فكرة مقبولة تماما وشائعة، ليس فقط فى الدول المسماة وقتها بالمتخلفة، بل وفى المتقدمة أيضا، وشاعت الدعوة إلى زيادة دور الدولة فى الاقتصاد، لرفع معدل التنمية ولإعادة توزيع الدخل، وكانت كلمة التخطيط محبوبة ومرضيا عنها، حتى من جانب المؤسسات الدولية الكبرى، كالبنك الدولى وصندوق النقد، وامتلأت الكتابات الاقتصادية بتشجيع الدول الفقيرة على إنشاء تجمعات وتكتلات اقتصادية، وكثر الحديث عن مزايا الوحدة الاقتصادية والأسواق المشتركة. ثم حدث فى السبعينيات أن بدأ الحماس لهذه الأفكار يضعف شيئا فشيئا حتى تحولنا فى الثمانينيات «مع قدوم عصر الريجانية فى أمريكا والتاتشرية فى بريطانيا» إلى العكس بالضبط. أصبحت كلمة «التخطيط» كلمة مهجورة وسيئة السمعة، وكذلك الكلام عن التأميم والتكتلات الاقتصادية، بل أصبحت الموضة الجديدة هى تحويل الملكيات العامة إلى ملكيات خاصة.
أذكر أننا، فى وقت ما فى الثمانينيات، عندما قويت الدعوة إلى تقليص دور الدولة فى الاقتصاد، وتردد الكلام عن تفوق القطاع الخاص على القطاع العام، كنا فى جلسة من الاقتصاديين المصريين، ضمت شيوخا وشبابا، من بينهم أستاذنا العزيز الراحل الدكتور سعيد النجار «الذى كان من أشد المتحمسين للقطاع الخاص والمنددين بالملكية العامة»، وأثار الدكتور سعيد التساؤل عن أفضل ترجمة عربية لاصطلاح Privatization فاقترح البعض كلمة «الخصخصة» ــ التى شاعت فيما بعد ــ وفضل آخر ترجمتها بعبارة كاملة مثل «نقل الملكية العامة إلى القطاع الخاص»، وتساءلت أنا «بين الجدّ والمزاح» عما إذا كان من الضرورى حقا البحث عن ترجمة عربية للكلمة، مادام الأمر لا يزيد عن كونه «موضة» من الموضات، سرعان ما يعدل عنها الاقتصاديون ويعترفون بأن القطاع العام قد يكون هو الأفضل على أى حال. واستغرب د. سعيد هذا القول بشدة إذ كان يعتقد اعتقادا جازما أن القطاع العام ذاهب بلا رجعة.
•••
تبين لى مع مرور الوقت أننى كنت مخطئا بعض الشىء فى توقعى، فقد استمرت موضة الخصخصة مدة أطول مما كنت أظن، وإن كان سوقها قد بدأ يصيبها الكساد مؤخرا، خاصة بعد الأزمة المالية والاقتصادية العالمية فى 2008. لقد كان دائما المعارضون لفكرة الخصخصة منذ بداية انتشارها منذ أكثر من ثلاثين عاما، والاشتراكيون الرافضون لأى تنازل من جانب الدولة عن دورها فى إدارة الاقتصاد، ولكن لا شك فى أن سوق الأفكار الاشتراكية قد أصابه ضعف شديد خلال هذه الثلاثين عاما، خاصة بعد سقوط الاتحاد السوفييتى ومعظم الدول الاشتراكية الأخرى، واحدة بعد الأخرى منذ أواخر الثمانينيات. ثم اشتد عود المعارضين للاتجاه نحو الخصخصة مع ظهور مسئولية المؤسسات المالية الخاصة، المدفوعة بدافع تعظيم الأرباح، مع وقوع الأزمة الأخيرة «التى لم نر نهايتها بعد»، بتورط هذه المؤسسات غير الأخلاقى فى تقديم القروض غير المضمونة وغير القابلة للرد.
بدأ بعض الاقتصاديين إذن يعضّون بنان الندم، ويعترف الواحد منهم بعد الآخر بأنهم قد أخطأوا بثقتهم الزائدة فى «عقلانية» القطاع الخاص ونظام السوق الحرة، وفى اعتقادهم الراسخ بصحة كلام آدم سميث منذ أكثر من قرنين، من أن ترك الحرية للأفراد للسير وراء مصالحهم الخاصة لابد أن يؤدى فى النهاية إلى تحقيق مصلحة المجتمع ككل. ربما كان الأمر يستحق بعض التروى وبعض الشك، والاعتراف ببعض الاستثناءات التى تتعارض فيها المصلحة الخاصة مع المصلحة العامة. وإذا كان الأمر كذلك، فربما كانت «الخصخصة» ليست بهذه الروعة التى كانوا يظنونها منذ ثلاثين عاما.
•••
منذ أسابيع قليلة قرأت مقالا بديعا لاقتصادى من كوريا الجنوبية اسمه هاجون تشانج Ha-Joon Chang ويعمل منذ سنوات أستاذا بجامعة كامبردج فى انجلترا، ونشرته جريدة الجارديان البريطانية التى يمكن اعتبارها أقل تعاطفا مع تقليص دور الدولة فى الاقتصاد من معظم الصحف البريطانية الأخرى. والمقال له عنوان مثير هو «فلنضع حدا لهذه العقيدة الشائعة عن الخصخصة.. فالحقيقة أن الملكية العامة أفضل».
يقول تشانج إنه آن الأوان أن نعترف بالحقيقة، وهى أن القطاع العام فى أحوال كثيرة أكثر كفاءة من القطاع الخاص. صحيح أن هناك أمثلة كثيرة فى العالم كله يكون فيها القطاع الخاص أكثر كفاءة، ولكن الأمثلة العكسية كثيرة أيضا.
يذكر لنا تشانج أمثلة قديمة وحديثة. مبرراته حركة التصنيع فى ألمانيا واليابان، فى القرن التاسع عشر، كانت بإقامة الدولة لمشروعات نموذجية لصناعات جديدة، كصناعة الصلب وبناء السفن، مما كان القطاع الخاص يعتبره فى ذلك الوقت مخاطرة كبيرة، ومن ثم أحجم عن القيام بها.
وفى خلال نصف القرن التالى على انتهاء الحرب العالمية الثانية اعتمد كثير من البلاد الأوروبية على الدولة لتطوير بعض الصناعات المتقدمة تكنولوجيا، مثل دور الدولة فى فرنسا فى إقامة مصانع رينو للسيارات وكذلك فى النمسا وفنلندا والنرويج. وينبه تشانج القارئ إلى أن دولة مثل سنغافورة، التى يضرب بها المثل عادة للدولة التى يقوم نجاحها على تشجيع القطاع الخاص وحرية التجارة، هى فى الحقيقة من أكثر دول العالم اعتمادا على ملكية الدولة للمشروعات الاقتصادية، حيث ينتج القطاع العام 22٪ من الناتج القومى الإجمالى لسنغافورة، وتقوم المؤسسة الحكومية المسئولة عن الإسكان بتزويد المنازل لـ85٪ من السكان. كذلك ينتج القطاع المملوك للدولة فى تايوان «التى تعتبر أيضا من المعجزات الاقتصادية فى شرق آسيا» 16٪ من إجمالى الناتج القومى. وفى كوريا الجنوبية تعتبر الشركة القائمة بإنتاج الصلب Posco، التى أنشأتها الدولة خلافا لنصيحة البنك الدولى، واحدة من أكبر الصناعات المنتجة للصلب فى العالم كله، ولم يكن قرار خصخصتها فى سنة 2001 ناتجا عن انخفاض كفاءتها بل لأسباب سياسية محضة.
يذكر تشانج أيضا أمثلة كثيرة أخرى من مختلف بلاد العالم لصناعات ناجحة تملكها أو تديرها الدولة، من صناعة الطائرات المدنية فى البرازيل «ثالث أكبر صناعة فى هذا الميدان فى العالم»، إلى شركة البترول Petrobras فى البرازيل أيضا، التى تعتبر أكبر شركة فى العالم لاستخراج البترول فى أعالى البحار، إلى الصناعات التى أقامتها المؤسسة العسكرية فى الولايات المتحدة، والتى قامت بمفردها بتدشين الاقتصاد الحديث القائم على ثورة المعلومات وتطوير الحاسبات الالكترونية والانترنت.
ويختم المقال بالتعبير عن أمله فى أنه لو أدرك الناس كم يمتلئ تاريخ الرأسمالية بالأمثلة الناجحة لمشروعات اقتصادية مملوكة للدولة، فربما توقف هذا الاندفاع غير المبرر نحو المزيد من الخصخصة.
من الطريف أن تلاحظ أن كاتب هذا المقال ليس أمريكيا ولا أوروبيا، مما يغرى المرء بالتساؤل عما إذا كان من الضرورى أن ننتظر أن يأتى شخص من الشرق الأقصى لكى ينبهنا إلى هذه الحقيقة البسيطة الغائبة، وهى أن من الممكن جدا فى ظروف معينة أن يكون القطاع العام أكثر كفاءة من القطاع الخاص؟
هل نحن نعيش فى زمن لا يأتى فيه الهواء المنعش إلا من ناحية الشرق؟