عن المآلات الصعبة للديمقراطية واعترافات المستبدين الكاشفة

عمرو حمزاوي
عمرو حمزاوي

آخر تحديث: الجمعة 7 أكتوبر 2016 - 9:00 م بتوقيت القاهرة

فى قديم الزمان، تطورت الدول الحديثة مستندة إلى سيطرة الحكام ونخبهم على موارد المجتمع، وتمكنهم من جباية الضرائب من الناس، واحتكارهم لأدوات توزيع العوائد على القطاعات الشعبية. واستوى فى ذلك الملك مطلق الصلاحيات ومن ورائه بلاطه الأميرى، والقائد العسكرى ومعه جيوشه بعدتها وعتادها، والحاكم الأبوى المعتمد على طاعة القبائل والعشائر وبطونها، والزعيم صاحب الكاريزما (الدينية كما الوضعية) المؤثرة فى الأتباع والمحفزة لهم للسير خلف «المخلص» دون شكوك أو تساؤلات.

فى سالف العصر والأوان، سالت الكثير من الدماء وتكررت ثورات وانتفاضات الناس على نحو دفع بعض الحكام إلى التنازل عن شىء من سيطرتهم على موارد المجتمع وإشراك غيرهم فى تحديد حصص الضرائب وطرائق جبايتها، وإلى إقرار مبدأ الرقابة على توزيع العوائد لضمان امتناع نخب الحكم عن المحاباة الشاملة لقطاعات شعبية صغيرة أو التورط فى التهميش الكامل للأغلبيات اقتصاديا واجتماعيا. وفى المقابل، تمسك حكام آخرون ونخب أخرى بالصلاحيات المطلقة وعملوا على المزاوجة بين توظيفهم للإجراءات القمعية والعقابية لإخضاع الأغلبيات المضارة وبين ممارسة التزييف الجماعى لوعى الناس بالترويج لشرعية وجودهم على رأس الدولة (السلطة) باستدعاء أسس تاريخية (الأسر المالكة) أو تقليدية (رؤساء القبائل) أو دينية (ادعاء مهدى منتظر أو جماعة ربانية لامتلاك الحق الحصرى للحديث باسم الرب والطريق القويم) أو مقولات ديماجوجية (إصرار الزعماء أصحاب الكاريزما والحكام التواقين إلى ادعاء الكاريزما على تمكنهم بمفردهم من قدرات خَلاصية تستطيع إنقاذ مجتمعاتهم من ظروف استثنائية يصطنعونها هم).

جرت مياه التاريخ فى أنهار عديدة، وألقت بقضها وقضيضها على شطآن مديدة. فولدت من رحم التفاعل بين ثورات وانتفاضات الناس وبين تنازلات الحكام والنخب وفى سياق صراعات دموية وبأثمان مجتمعية باهظة دول «سيادة القانون» التى سنت دساتير وقوانين اتجهت لأن تجعل من الناس تدريجيا مواطنين ذوى حقوق وحريات وواجبات متساوية. ثم اصطفت تدريجيا المجتمع باعتباره الجهة الرئيسية المخولة بتحديد حصص الضرائب، وطرائق جبايتها، ونسب وأشكال توزيع العوائد على المواطنين عبر سلطات نيابية مستقلة (تمثل الأغلبيات والأقليات) وسلطات قضائية محايدة (تسهر باسم المجتمع على الرقابة والمساءلة والمحاسبة). وأتبعت ذلك بتشكيل تدريجى لدوائر الحكم (السلطة التنفيذية) ككيان مركب بخاناته من يختاره المواطن (المسئول المنتخب) وبها أيضا من يأخذ مكانه وفقا لاعتبارات التخصص والكفاءة وأحيانا لاعتبارات أخرى (المسئول المعين)، كما تنتظم فى جميع الخانات مؤسسات نظامية (عسكرية وأمنية) وغير نظامية (بيروقراطية ومدنية) تخضع لرقابة السلطات النيابية والقضائية وتلزمها الدساتير والقوانين كما تلزم مسئولى العموم (بمنتخبيهم ومعينيهم) بخدمة الصالح العام وباتباع مبادئ الشفافية والنزاهة وبالامتناع عن استغلال المنصب العام لمصالح خاصة.

أما حين تمسك الحكام ــ ومعهم النخب ــ بالوقوف فى وجه المطالب المشروعة للناس وبالمزاوجة بين القمع وبين تزييف الوعى بغية فرض السيطرة والإخضاع ولم تردعهم عن شبق الاستئثار بالسلطة عوامل كالفقر المتراكم والدماء المسالة والدمار المنتشر (خاصة فى أعقاب الثورات والانتفاضات والهبات الشعبية) ــ فقد استمرت الممالك والسلطنات والإمارات وفيما بعد الجمهوريات كدول «استبداد» لم تر فى الناس سوى «رعايا» للحاكم عليهم إما القبول التام لقراراته وسياساته بمعزل عن مضامينها ونتائجها وإما انتظار التعقب والتنكيل والعقاب. وباتجاه المجتمع، بعيدا عن جباية الضرائب وباستثناء النخب التابعة للحكام والفئات صغيرة العدد المتحالفة معهم، عممت الدول الاستبدادية نظرة سلبية جوهرها كونه «شرا لابد منه» يتعين أن تدار شئونه بالحديد والنار دون إقرار لمفهوم الصالح العام، ويدفع إليه لسد الرمق بشىء من العوائد دون اعتراف بمفهوم الحق العام، وتنزع عنه القدرة على رقابة ومساءلة ومحاسبة الحكام (أى السادة) الذين لا قبل للرعايا (أى العوام الجهال بحسابات التاريخ أو التقاليد أو القوامة الدينية أو الخلاص القادم) بإدراك دورهم فى حماية الدول والحفاظ على مقومات ومرتكزات وجودها. تدريجيا أيضا عملت ممالك وسلطنات وإمارات وجمهوريات الاستبداد، وبغض النظر عن مدى إنشائها لدساتير وقوانين حديثة وتشييدها لمؤسسات نظامية وغير نظامية تحاكى الهياكل المؤسسية التى طورتها دول سيادة القانون، على الإبقاء على ممارسة الحكم بمكوناتها المرتبطة بالسيطرة على موارد المجتمع وجباية الضرائب وتوزيع العوائد كأمر فردى يرتبط عضويا بالحكام ونخبهم غير الخاضعين لرقابة نيابية مستقلة أو قضائية محايدة وتساعد به مؤسسات نظامية وغير نظامية منتقاة يجزل لأفرادها العطاء (الملكى أو السلطانى أو الأميرى أو الجمهورى) وترفع درجات على غيرها من المؤسسات.

***
تنتفى الموضوعية عن كل توصيف لصيرورة دول سيادة القانون، وهى تحضر اليوم شرقا وغربا وجنوبا وشمالا، يدعى حدوثها كتطور بيانى وأحادى الاتجاه وشامل المضامين نحو اعتماد مبادئ مواطنة الحقوق المتساوية والديمقراطية النيابية والمشاركة الشعبية فى صناعة القرار العام (عبر أدوات كثيرة أبرزها الانتخابات الدورية النزيهة ومن خلال كيانات متعددة أبرزها منظمات المجتمع المدنى والنقابات والأحزاب السياسية) وخضوع السلطة التنفيذية لرقابة السلطتين التشريعية والقضائية ولرقابة الرأى العام وبداخل خانات السلطة التنفيذية خضوع المسئول المعين والمؤسسات النظامية كالجيوش والأجهزة الأمنية لرقابة المسئول المنتخب والمؤسسات المدنية كدواوين المحاسبة الحكومية.

فقد قوم ميلاد دول سيادة القانون دون هوادة، ونشبت الحروب الأهلية والإقليمية والعالمية كامتداد للصراع بين حكام ونخب وقوى اجتماعية واقتصادية دافعت عن رؤى متناقضة لتنظيم العلاقة بين المواطن والمجتمع والدولة (كالصراع بين الفاشيين والديمقراطيين قبل وأثناء الحرب العالمية الثانية 1939 ــ 1945)، وتكررت فى أرجاء فسيحة انتكاسات دول سيادة القانون وانهيار حكوماتها من جمهورية فيمار الألمانية (1919 ــ 1933) التى أسقطها النازى والملكية الدستورية فى مصر التى أنهتها حركة الجيش فى 1952 إلى روسيا الاتحادية التى انسحبت من المسار الديمقراطى مع بزوغ البوتينية (فى نهاية تسعينيات القرن الماضى) ومصر المعاصرة التى انقلبت على التحول الديمقراطى فى 2013. ومازالت مقاومة مبادئ مواطنة الحقوق المتساوية والديمقراطية النيابية وغيرهما تؤثر بقوة فى الواقع الراهن لبعض دول سيادة القانون، على النحو الذى يعبر عنه صعود اليمين الشعبوى فى الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا الغربية أو انقلاب بعض الحكومات المنتخبة فى أوروبا الشرقية والوسطى (المجر نموذجا) بافتئاتها على حقوق الناس (خاصة اللاجئين منهم والمهاجرين) على قيم الحرية والمساواة والعدل التى تمثل المرتكزات الأخلاقية للفكرة القانونية.

وبالمثل، تنتفى الموضوعية عن كل توصيف لأحوال دول الاستبداد يتعامل مع غياب الحرية كقدر محتوم لا فكاك منه ومع حضور القمع كتعبير سرمدى عن إخفاق غير قابل للإنهاء لجهة إجبار الحكام على التنازل عن شىء من سلطاتهم وصلاحياتهم ولجهة الصياغة الدستورية والقانونية والمؤسسية لعقد جديد يجعل من الرعايا مواطنين ومن المجتمع مصدر السلطة ومعين شرعيتها ومن الدولة كيان شفاف هدفه خدمة الصالح العام وله فى هذا الإطار (وفى هذا الإطار فقط) حق الاستخدام المشروع للقوة الجبرية. فأبواب الخروج من الاستبداد لم تكن دوما مؤصدة ولم يتوقف أبدا البحث عن سبل للنجاة من هاوية الفقر وإسالة الدماء والدمار التى تسبب بها حكم الفرد، وإلا لما استطاع بعض الأوروبيين فى القرنين الثامن عشر والتاسع عشر تحويل الملكيات المطلقة إلى ملكيات دستورية ونجح الكثير من الأمريكيين اللاتينيين فى القرن العشرين فى التخلص من سيطرة المؤسسات العسكرية والأجهزة الأمنية على الحكم وبناء حكومات ديمقراطية وقدرت بعض الشعوب الآسيوية والإفريقية فى القرن العشرين أيضا على تجاوز حكم الفرد ذى الأسس التاريخية أو التقليدية أو الدينية أو الديماجوجية. كذلك لم تغب مقاومة الاستبداد (فكرا وفعلا) عن بلاد العرب التى طال فيها أمد حكم الفرد إن فى ممالك وسلطنات غير دستورية أو فى إمارات قبائل وطوائف أو فى جمهوريات العسكرتارية ومدعى القوامة الدينية، ولم تحدث ثورات وانتفاضات 2011 أو تتبلور مطالب البدايات المتعلقة بالحرية وسيادة القانون وتداول السلطة والعدالة الاجتماعية بمعزل عن عقود خلت من النضال الديمقراطى ومن الدفاع عن مواطنة الحقوق المتساوية ومن الفشل الذريع لدول الاستبداد.

بل إن نفرا من المستبدين، وفى لحظات مجتمعية فارقة، اعترفوا بمسئوليتهم عن الأزمات والاختلالات التى ألحقها حكمهم بالمواطن والمجتمع والدولة وأقروا (جزئيا على الأقل) بضرورة التغيير، مثلما حاول الرئيس الأسبق جمال عبدالناصر عقب الهزيمة العسكرية فى 1967 إبعاد المؤسسة العسكرية عن التورط فى شئون الحكم والسياسة ودفعها باتجاه قبول شىء من مبادئ الرقابة والمساءلة والمحاسبة وكما سعى بعض ملوك العرب إلى إدماج بعض معايير المشاركة الشعبية فى صناعة القرارات والسياسات العامة عبر الأدوات الانتخابية والبرلمانية (المملكة المغربية والمملكة الأردنية). وفى الوعى الجمعى للناس نهضت «اعترافات المستبدين» تلك، مهما ران عليها تارة من تفريغ للمضمون ومحدودية للأثر وتارات من تراجعات وانقلابات شاملة، كدليل على وجهة مستقبلية يتعين التحرك نحوها ومسارات للفعل واضحة الأهداف ــ من ديمقراطية العلاقات العسكرية المدنية فى مصر إلى تقييد سلطات الملوك فى المغرب والأردن. وليست نقاشاتنا المصرية الراهنة بشأن الدور الاقتصادى للجيش وأولوية قبول المؤسسة العسكرية والأجهزة الأمنية لمبادئ الشفافية والرقابة والمحاسبة بمرتبطة فقط بتطورات السنوات الأخيرة بين 2013 و2016، بل هى أيضا تعبير مباشر عن الاشتباك المستمر منذ خمسينيات القرن العشرين مع سؤال الجيش والسياسة وتداعياته على الدولة ومؤسساتها وعلاقتها بالمواطن والمجتمع. ولا تستمد النقاشات الراهنة فى المغرب (عشية الانتخابات التشريعية) والأردن (بعد إجراء الانتخابات) عن الحدود الواردة على دور الملوك فى الحكم والسياسة وعن دور المجالس التشريعية المنتخبة فى رقابة المخزن (فى المغرب) والبلاط (فى الأردن) صخبها من أحداث اليوم وحسب، بل تعود إلى اقتران بدايات التحول الديمقراطى المقيد فى البلدين بأزمات حادة (الأزمات الاقتصادية والاجتماعية فى نهاية ثمانينيات القرن العشرين) استدعت إقرار الملوك بحتمية إشراك الناس فى إدارة شئونهم.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved