تخيلى أنهم عاشوا دون تباعد؟
تمارا الرفاعي
آخر تحديث:
الخميس 8 أكتوبر 2020 - 1:03 م
بتوقيت القاهرة
يقال إن العينين مرآة الروح. يقال إن فى العيون سحرا وكلاما. يقال أن ثمة حوارات كاملة بالنظرات لا يتخللها الكلام. فى عالم الكورونا، أنا محاطة بعيون تعكس القلق، تظهر من فوق أقنعة تخفى الأنوف والأفواه. هكذا وخلال شهور قليلة، اختفت الابتسامات، تم حذفها من قاموس التعبير، غابت الأنوف خلف الستار وأخذت معها القدرة على الإحساس بالأشياء قبل رؤيتها. خلال شهور قليلة لم تعد حاستى الشم والتذوق من الحواس الأساسية فى الحياة اليومية.
***
ضحكت مرة حين قالت صديقتى إنها بحاجة إلى النظارة حتى تسمع ما أقول، فهى تسمعنى وتنظر أيضا إلى وجهى لتقرأ شعورى من خلال تعابيرى التى تتغير مع مسار القصة التى أحكيها. هى بحاجة لرؤية كلماتى وهى تخرج من فمى فتقرأ الشفاة حين يتعذر عليها أن تسمع كلمة تهرب منى بسرعة فلا تلتقطها.
***
بكيت مرارا بسبب رائحة وصلتنى دون استئذان ففتحت فى قلبى طاقة من الحنين إلى خباز الحارة أو ليالى الصيف البعيد، يشعر أنفى بالشىء قبل أن أراه ويرسل رسائل فورية إلى قلبى فترانى أتحول قبل أن أفهم شعورا يجتاحنى لكنى سرعان ما أرى السبب، يكون أنفى قد التقطه قبل عينى.
***
القناع يمنع عنى حاستين، يجبرنى على إرهاق عينى، يأخذ منى متعة المشى خلف رائحة أعرف أنها تسحبنى نحو الطفولة ومطبخ قديم. القناع يمنعنى من قراءة من أمامى، إذ لا يكفينى سحر العيون ولا مرآة روحها. يخيفنى التلثم ويزعجنى أننى قد أخطئ فى قراءة من أمامى حتى إن نظرت فى العينين. أحاول أن أبتسم من خلف القناع لكنى لا أعرف إن التقط من بقربى محاولتى بالتودد.
***
يزعجنى هذا العالم الذى بات بينى وبينه قناع وقفازان، العالم الذى صرت أستغرب فيه أشياء كانت تلقائية. تربكنى المسافة التى أتركها بينى وبين من حولى، ويربكنى التباعد الذى أصبح قاعدة فى الأماكن العامة بعد حياة كاملة أمضيتها أبحث عن بعض المسافة. أتخيل موقفا قد يعيشه أولادى بعد سنوات كثيرة حين يبحثون فى بيتى عن شىء فيعثرون على ملفات صور التقطتها فى طفولتهم. يستغرب أولادى من جلوسى بين أصدقاء وصديقات على كنبة فى مناسبة اجتماعية كبيرة. لا يفهمون أصلا كيف اجتمع عدد كهذا من الناس فى إطار واحد. أتخيلهم يكبرون مع مفهوم التباعد الجسدى والاجتماعى ثم يرون دليلا على أننى عشت حياة مختلفة لا يعرفونها، حياة تشاركت فيها الطعام مع أصدقاء بمناسبة ودون مناسبة، اجتمعنا فى الأفراح وفى الأحزان. كيف لا، فما أنا دون من أحب من حولى، أستمع لقصص الناس وأعلق، أمد يدى إلى طبق لأذوق ما فيه وأعطى الباقى لمن يجلس بقربى؟
***
سوف تستغرب الأجيال القادمة استهتارنا بصحتنا وسوف يذكرون من بقى منا على قيد الحياة بمواقف شهدوها عن لقاءات جماعية ومناسبات احتفالية، وسوف يلحقون تذكرهم للمواقف بسؤالنا «هل حقا لم تعوا حينها بخطورة ما كنتم تقومون به؟»
***
سوف أحكى لهم عن ليالٍ قضيتها فى أحاديث لا تنتهى عن السياسة والثقافة وسط مجموعات لا تنتهى من الأصدقاء. سوف أصف لهم بدقة تفاصيل تحضير حفلة استضفت فيها أكثر من عشرين شخصا بمناسبة عيد ميلاد أو الحصول على شهادة جامعية. سوف أتجاهل نظراتهم حين يسمعون أننا كنا نرص الكراسى بشكل يساعدنا أن نتشارك الحديث فى مجموعة كبيرة فنكاد أن نلصق الكراسى كلها مع بعض حتى لا تفوتنا كلمة بسبب بعدنا عمن يتحدث.
***
أما حين أحدثهم عن عدد من كان يجلس حول مائدة الطعام هذه، نعم هذه، فهى شاهدة على سنوات طويلة من الصداقات والنقاشات، فلن يستوعب أولادى فى المستقبل أننا كنا نمضى ليالى فى غرفة الطعام نناقش قضية الساعة. هناك تغيير خطير يبدو أنه يجتاح العلاقات الإنسانية بسبب القيود التى تفرضها إجراءات الوقاية من الجائحة، رغم عدم التزام الكثيرين بالإجراءات. أنا أتوقف قبل أن أدخل إلى مكان، أتساءل إن كنت سأمد يدى أم لا للمصافحة، هل سوف أقف على مسافة من أمى وأبى حين أراهما أخيرا بعد شهور من الشوق تفاديا لتعريضها إلى خطر صحى؟ وماذا عن أولادى حين يقومون بزيارتى بعد سنوات طويلة، فى عالم لا تلامس فيه، هل ستجلس ابنتى على كنبة أمامى دون أن تلتصق بى كما تفعل الآن؟ حين أذكرها أنها كانت تختبئ تحت ثوبى حتى تتأكد أننى لن أغادر البيت هل ستصدقنى؟ أراها من تحت القناع تمعن النظر بى، أمها المتقدمة بالسن، وتستمع إلى قصص أحكيها عن حياة عشتها قبل التباعد وقبل الأقنعة. سوف تخرج ابنتى من الزيارة وهى تعدل القناع على وجهها ثم تتصل بإحدى صديقاتها وتقول «اليوم حكت لى أمى عن طريقة حياة لا أفهم كيف عاشها جيلها دون تفكير. تخيلى أنها كانت تقيم دعوات للعشاء فى بيتنا تضم أكثر من عشرين شخصا؟ تخيلى أنهم عاشوا دون تباعد؟»