العدالة المناخية
بشير عبد الفتاح
آخر تحديث:
الإثنين 7 نوفمبر 2022 - 8:00 م
بتوقيت القاهرة
يأبى «الاحترار العالمى»، إلا أن تغدوالدول الأقل تسببا فيه، هى ذاتها الأكثر تأثرا بعواقبه.
فقد كشفت دراسة أوروبية، أن منطقة البحر المتوسط، ستتصدر أقاليم العالم المنكوبة. إذ سيتنامى بها معدل الفقرالمائى، ويتدهورالتنوع البيولوجى، وتتوارى الكائنات البحرية. فى المقابل، تواصل الدول الصناعية الكبرى إسهاماتها المتعاظمة من الانبعاثات الغازية الضارة. حيث جاءت الصين فى الصدارة، بإنتاجها 27% من الحصة العالمية، تليها الولايات المتحدة بنسبة 11%، ثم الهند، فالاتحاد الأوروبى بواقع 3.4،و3.3% على التوالى. ثم إندونيسيا، وروسيا، والبرازيل، واليابان، بنسب تقل عن 2% لكل منهم.
من رحم عدم التكافؤ فى توزيع الآثارالناجمة عن ظاهرة الاحتباس الحرارى بين الدول الصناعية المتسببة فيها، وتلك الفقيرة الأكثر تضررا منها، انبلجت فكرة «العدالة المناخية». تلك التى تستهدف ربط أسباب تغير المناخ وآثاره، بالعدالة البيئية والاجتماعية، مع تعزيز مبادئ المساءلة والمشاركة، والاستدامة البيئية، ومعالجة أوجه عدم المساواة. فضلا عن تمويل مشاريع التكيف المناخى بالدول التى تتحمل عبئا غير متناسب، انطلاقا من مبدأ العدالة التعويضية. مع ضمان وصول الموارد المطلوبة لمعالجة تداعيات تغيرالمناخ، إلى من يستحقونها.
كانت اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية لتغيرالمناخ، التى وقعها قادة العالم فى قمة الأرض بالبرازيل، عام 1992، قد وضعت هيكلا قانونيا للتعاون العالمى فى شأن مكافحة الظاهرة. حيث ألزم الدول المتقدمة بتوفيرمساعدات مالية وإنمائية أخرى، من خلال مبادئ ثلاثة: المبدأ الوقائى، مبدأ الحق فى التنمية، ومبدأ الاشتراك فى المسئولية المتباينة، وفقا لقدرات كل بلد. وفى عام 2000، التأمت أول قمة حول العدالة المناخية فى لاهاى، وسلطت الضوء على وجوب دعم الدول الأكثرفقرا وتضررا. وفى عام 2008، أطلقت الدول صاحبة أضخم الاقتصادات، مبادرة صناديق الاستثمار فى المناخ، والشراكات الانتقالية للطاقة العادلة، بغرض دعم مساعى البلدان الفقيرة للتحول السريع نحواقتصاد منخفض الكربون.
أما اتفاقية باريس للمناخ، التى تبنتها 197 دولة، إبان مؤتمرالأطراف، عام 2015، فوضعت إطارا للدول المتقدمة بغية إعانة الدول النامية على التكيف مع أصداء التغيرات المناخية، وإنشاء إطار للرصد والإبلاغ عن المستهدفات المناخية، بما يتطلب تعظيم الإنفاق على البنية التحتية، والصناعة، وتغيير العادات اليومية للمجتمعات.
بدورها، قدرت الأمم المتحدة كلفة سنوية لسياسات التكيف المناخى فى البلدان النامية بحلول عام 2030، بقرابة 300 ملياردولار. أما المؤتمرات السابقة التى التأمت ضمن إطار اتفاقية الأمم المتحدة لتغير المناخ، فقد خصصت 100 مليار دولار، لدعم القدرات التكيفية للدول النامية، وتعزيز قدرتها على الصمود. بيد أن تلك المخصصات المالية لم تلمس سبيلها إلى الوجهات والأغراض المقررة، التى لم يصلها منها سوى 21% فقط، تعادل 16.8مليار دولار سنويا. ذلك أن الدول الصناعية تصر على التعاطى مع قضية تمويل سياسات التكيف المناخى، انطلاقا من مبدأ «المسئولية الجماعية». كما تتعمد إرجاء حسم الجدل بهذا الخصوص، مع التعويل على توسيع دورالقطاع الخاص. أما البنك الدولى، المعنى بتيسير المساعدات والقروض للدول النامية، بقصد دعم جهودها للحد من آثارالتغيرات المناخية، والتأقلم معها، فقد تخلى هو الآخر عن بعض تعهداته. فبعدما أعلن عام 2020، تخصيص 21.3 مليار دولار، لتمويل مشروعات التكيف المناخى، بالبلدان الأكثر فقرا، لم يوجه منها فعليا سوى 17 مليار دولار فقط. فيما لا يُعرف مصير مليارات سبعة أخرى، تشكل 40% من إجمالى المخصصات.
إبان مؤتمرالأطراف، «كوب26»، العام الماضى، اعتمدت الدول المشاركة، «ميثاق جلاسكو للمناخ»، الذى يدعو إلى مضاعفة التمويل، لدعم الدول النامية فى التكيف مع آثار تغير المناخ، وبناء المرونة. كما دشنت القمة برنامج عمل لتحديد الاحتياجات الجماعية، وتقديم الحلول الناجزة. وأثناء المؤتمر، طالبت الدول الفقيرة، بآلية خاصة تأخذ فى اعتبارها الخسائر والأضرار الناجمة عن التغير المناخى. غير أن الدول الغنية رفضت هذا الاقتراح، ولم توافق، إلا على إجراء «حوار» سنوى، حتى عام 2024، لمناقشة سبل تمويل سياسات التكيف المناخى.
نتيجة لذلك، تشكل ما يعرف بـ«تحالف التكيف وبناء المناعة»، الذى تلعب فيه مصر دورا رئيسا. لأجل العمل على تلبية متطلبات الدول النامية فى مواجهة تغير المناخ. وخلال قمة الأمم المتحدة للمناخ عام 2019، ترأست مصر، بالشراكة مع جمهورية مالاوى، والمملكة المتحدة، «تحالف التكيف والتحمل»، كممثلة للقارة الأفريقية، والرئاسة المشتركة لمجموعة «أصدقاء التكيف» فى نيويورك.
خلال الاجتماع التحضيرى، لمؤتمر «كوب27»، مطلع الشهر الفائت، طالب وزراء البيئة فى 60 دولة، البلدان المتقدمة ببذل المزيد لمكافحة التغير المناخى. ومساعدة الدول الفقيرة على التخفيف من وطأة مفاعيله، ودعم جهود التكيف معه، من خلال الإسهام فى تمويل خسائره وأضراره. وشدد رئيس الوزراء الكونغولى، الذى استضافت بلاده الاجتماع، على أن أفريقيا، التى لا تتسبب إلا فى 4% فقط من الغازات الدفيئة، تحتجز منها أكثر مما تنتج، تكابد صعوبات فى «الاختيار» ما بين مكافحة الفقر المدقع الذى يحاصرها، والفاتورة الفادحة لسياسات التكيف المناخى، ما لم توفر لها الدول الصناعية بدائل تكنولوجية ومالية مناسبة. كذلك، نددت وزيرة البيئة الكونغولية، بعدم الالتزام بالتعهدات الدولية المتعلقة بزيادة المساعدات المخصصة لمكافحة التغير المناخى بالدول النامية، إلى 100 مليار دولارسنويا. كما انتقدت الشروط التعجيزية أمام حصول تلك الدول على منح لتمويل التكيف المناخى.
أخيرا، حذرت دراسة اقتصادية، من إقدام نصف الرؤساء التنفيذيين للشركات الدولية، على تجميد الجهود بمجال «الحوكمة البيئية»، خلال الأشهر الستة المقبلة، استعدادا لمجابهة تداعيات الركود العالمى. فتحت وطأة الانكماش الاقتصادى، تتطلع تلك الشركات، إلى تحقيق التوازن ما بين الاعتبارات البيئية على المدى المتوسط، وحماية الاستقرار الاقتصادى والاجتماعى على المدى القصير.
بدوره، حذر رئيس الوزراء الكونغولى، من تمادى بعض الدول فى مواصلة انبعاثاتها، بل زيادتها. ومنع دول أخرى من استغلال مواردها الطبيعية. خصوصا مع عودة بعض الدول الأوروبية إلى استخدام مصادرالطاقة الهيدروكربونية، التى سبق لها حظرها، للتعويض عن شح موارد الطاقة جراء الحرب الروسية الأوكرانية.
فى سفره المعنون: «تغير المناخ عنصرى: العرق، والامتياز، والنضال من أجل العدالة المناخية»، الصادر فى يونيو2021، يسلط الناشط البيئى، جيريمى وليامز، الضوء على العنصرية البنيوية المتأصلة فى المجتمعات؛ إذ يتسبب جل الأشخاص البيض فى الدول ذات الأغلبية البيضاء، فى الاحترار العالمى، بينما يكون الضرر من نصيب الملونين والسود. الأمر الذى يعتبره الكتاب ارتدادا مناخيا للظلم العنصرى، حيث يرى أن «انعدام المساواة البيئية» يعد مثالا صارخا للعنف الهيكلى، الذى ينبع من أفكار ثقافية عميقة، عن الأحقية فى الهواء النظيف والموارد الطبيعية.
ويرى العالم البيئى، دانيال ماكميلن، أن الطبيعة صارت ضحية للأحلام الاستعمارية؛ فعبر القارات، تم تطهير الأشجار، والأراضى العشبية، والغابات المطيرة، والأراضى الرطبة، بقصد إفساح المجال للمحاجر، والمزارع، والطرق، والسكك الحديدية. وكما يشرح المؤرخ البريطانى، ريتشارد درايتون، فقد شكلت الإمبريالية، أى توسع الإمبراطوريات، حملة لتوسيع نظام بيئى، أو طريقة للعيش فى الطبيعة. ومن ثم، تجسدت القاعدة فى استنزاف الموارد، والتلويث، وإزالة الغابات، وتدمير النشاطين الزراعى والرعوى. ويأسف، يوهان جالتونج، لتكبد أبرياء، نصيب الأسد، من كلفة تفاقم الانبعاثات الغازية الدفيئة الضارة بالبيئة، التى تشكل عدوانا على الطبيعة والتنوع البيولوجى. وقد اكتشفت دراسة، نُشرت حديثا فى «مجلة العلوم الوطنية الأمريكية»، أن المجتمعات السوداء والإسبانية فى الولايات المتحدة، تتعرض لتلوث هواء، يفوق ما تنتجه من خلال قيادة المركبات واستهلاك الكهرباء. بينما يتمتع الأمريكيون البيض، الذين ينتجون غالبية الملوثات، بجودة هواء أفضل من المتوسط الوطنى. ووجدت ورقة بحثية بمجلة «ساينس»، أن تغير المناخ سيسبب أكبر ضرر اقتصادى فى أفقر مقاطعات أمريكا، التى يقطنها السود والملونون.
تبقى آمال الاختصاصيين، وأفئدة المتابعين، معلقة بمؤتمر «كوب27»، الذى تحتضنه مدينة شرم الشيخ. توسلا لإرساء دعائم العدالة المناخية، عبر بلورة خارطة طريق متكاملة، وواضحة. تضمن تزويد الدول النامية بمنح تمويلية سخية، ومرنة، وجادة، وشفافة، لتمويل؛ التكيف المناخى، والتحول العاجل نحو الطاقة المتجددة، وتعويض الخسائر، بمشاركة القطاع الخاص، والجهات الفاعلة غيرالحكومية، وبنوك التنمية متعددة الأطراف، وشركات التكنولوجيا، من خلال تفعيل «صندوق الخسائروالأضرار»، الذى يلزم الدول الغنية بتقديم تعويضات مالية، تتناسب مع مسئوليتها التاريخية عن الانبعاثات الكربونية المسببة للاحتباس الحرارى. وحسنا فعل الأمين العام للأمم المتحدة، حينما ناشد الدول الغنية، العمل خلال المؤتمر، على سد فجوات؛ الطموح، والمصداقية، والتضامن. عبر إبرام اتفاق تاريخى ملزم مع الدول النامية، لضمان تنفيذ تلك المقترحات.