كيف يخدم خطاب الحرب على الإرهاب مصالح إسرائيل؟
جورج فهمي
آخر تحديث:
الأربعاء 8 نوفمبر 2023 - 11:07 ص
بتوقيت القاهرة
استضافت إحدى الجامعات الأوروبية قبل سنوات أستاذا إسرائيليا للحديث عن تحديات الأمن القومى لدولته. أسهب الرجل فى الحديث عن التطرف الإسلامى والخطر الذى يمثله على الدولة اليهودية. وقام بعرض للهجمات التى تعرضت لها إسرائيل للتدليل على وجهة نظره. إلا أنه خلط ما بين الهجمات التى قامت بها حركات جهادية، وهى نادرة، والعمليات التى قامت بها فصائل المقاومة الفلسطينية وضمنها تنظيمات غير إسلامية من الأساس. وضع المتحدث الإسرائيلى كل تلك العمليات فى سلة واحدة ليظهر للحاضرين مدى التهديد الذى تتعرض له إسرائيل. لكن حظه العاثر كان فى وجود طلبة عرب وسط الحضور، فقاموا خلال النقاش بفضح أكاذيبه.
تذكرت تلك الواقعة عند متابعة الخطاب الإسرائيلى فى أعقاب هجوم حركة المقاومة الإسلامية (حماس) الأخير فى السابع من أكتوبر. فقد سعت إسرائيل إلى صياغة خطابها تجاه العالم استنادا إلى مفردات الحرب على الإرهاب. وطبقا لهذا الخطاب، فإن إسرائيل تعرضت لهجوم إرهابى مثلما تعرضت الولايات المتحدة إلى هجمات الحادى عشر من سبتمبر عام 2001، وحركة حماس هى القاعدة وتطورها الطبيعى داعش، ومن ثم يكون على إسرائيل حشد كل قوتها من أجل تدمير حركة حماس كما فعلت الولايات المتحدة مع تنظيم القاعدة بعد 2001 والمجتمع الدولى مع داعش عقب إعلان الأخيرة دولتها الإسلامية فى 2014.
إلا أن هذا الخطاب الإسرائيلى يروج لعدة مغالطات مقصودة، تبنتها إسرائيل لكى تبرر سياساتها تجاه الفلسطينيين. أول تلك الأخطاء، هى أن حركة حماس ليست هى داعش، بل إن غزة شهدت صراعا عنيفا بين الجانبين لسنوات.
• • •
ظهرت السلفية الجهادية فى فلسطين متأخرة عن باقى المنطقة العربية. فبدأ ظهورها مع الانتفاضة الفلسطينية الثانية، واكتسبت مزيدا من الشعبية فى غزة بعد الغزو الأمريكى للعراق عام 2003. وقد استغلت السلفية الجهادية الانسحاب الإسرائيلى الأحادى الجانب من غزة فى 2005، والصراع بين فتح وحماس على السلطة الذى تلاه، لزيادة نفوذها داخل الأراضى الفلسطينية. وفى عام 2005، تم إنشاء عدة مجموعات مرتبطة بالسلفية الجهادية، أبرزها خلال تلك المرحلة جند أنصار الله، وجيش الإسلام. وبينما تنظر حماس إلى نفسها باعتبارها «حركة تحرر ومقاومة وطنية فلسطينية إسلامية، هدفها تحرير فلسطين ومواجهة المشروع الصهيونى»، ترفض الجماعات السلفية الجهادية هذا النهج الوطنى، وبدلا من ذلك ترى نفسها جزءا من حركة جهاد عالمية ضد أعداء الإسلام. وتشمل هذه الفئة من «أعداء الإسلام» إسرائيل بالفعل، ولكنها تشمل أيضا الفلسطينيين الذين لا يتبعون نهج تلك الحركات، كما هو الحال مع الشيوعيين والقوميين، وحتى فى مرحلة لاحقة حماس نفسها، عندما بدأت حماس العمل على الحد من نفوذ الجماعات السلفية الجهادية فى غزة.
وزاد التوتر بين حماس والسلفية الجهادية عندما أعلن تنظيم جند أنصار الله تأسيس إمارته الإسلامية فى رفح فى أغسطس 2009، كخطوة أولى لإقامة الدولة الإسلامية فى كل غزة خلال خطبة الجمعة فى مسجد ابن تيمية بمدينة رفح. وردت حماس بمحاصرة المسجد والاشتباك مع من بداخله. وأسفرت المواجهة المسلحة عن مقتل 22 شخصا، من بينهم ستة من أعضاء حماس. ومع ظهور داعش، عاد التوتر مرة أخرى بين السلفية الجهادية وحماس بعد أن قام تنظيم داعش بقتل كوادر من حماس فى مخيم اليرموك للاجئين فى سوريا. قد أدت هذه المرحلة الجديدة من السلفية الجهادية فى غزة إلى موجة من الهجمات التى استهدفت قوات حماس. ففى أغسطس 2017، فجر انتحارى نفسه فى قطاع غزة بالقرب من الحدود مع مصر، مما أسفر عن مقتل عنصر أمنى تابع لحماس وإصابة عدد آخر. وفى عام 2019، نفذ جهاديون فى غزة هجمات انتحارية على نقطتى تفتيش تابعتين لشرطة حماس بالقرب من مدينة غزة، قتل فيها ثلاثة من عناصر شرطة حماس.
• • •
أما ثانى الأخطاء التى يتعمد الخطاب الإسرائيلى إغفالها فهو أن المقاومة لإسرائيل لا تقتصر فقط على الحركات ذات البعد الدينى كما هو حال حركتى حماس والجهاد، بل هى تضم أيضا حركات قومية ويسارية عدة.
فحركات المقاومة المسلحة الفلسطينية تضم طيفا واسعا من الحركات والتى تضم تنظيمات إسلامية كما هو حال كتائب القسام التابعة لحركة حماس، وكذلك سرايا القدس التابعة لحركة الجهاد الاسلامى. إلا أن المقاومة المسلحة تضم أيضا حركات قومية ويسارية كما هو حال كتائب شهداء الأقصى التابعة لحركة فتح، وكتائب أبوعلى مصطفى وهى الجناح العسكرى للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، والتى تأسست عام 2000 حيث كان اسمها «قوات المقاومة الشعبية» وتم تغيير الاسم لكتائب الشهيد أبوعلى مصطفى بعد اغتيال إسرائيل للأمين العام للجبهة فى رام الله عام 2001. وإذا كانت المقاومة الإسلامية المسلحة هى التى تتصدر المشهد خلال السنوات الأخيرة، فإن تاريخ المقاومة الفلسطينية متنوع. فقد تصدرت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين مشهد المقاومة خلال ستينيات وسبعينيات القرن الماضى من خلال سلسلة من العمليات التى تخطت فلسطين والعالم العربى لتصل إلى أوروبا كما هو الحال مع العملية التى نفذتها ليلى خالد فى أغسطس 1969 عندما قامت بخطف طائرة ركاب تابعة لشركة تى دبليو إيه الأمريكية وتحويل مسارها إلى سوريا، بهدف إطلاق سراح المعتقلين فى فلسطين، ولفت أنظار العالم إلى القضية الفلسطينية.
• • •
وأخيرا فإن هذا الخطاب الإسرائيلى يسقط السبب الرئيسى للعنف فى فلسطين وهو الاحتلال الإسرائيلى. ويحقق هذا الخطاب لإسرائيل مصلحة أساسية وهى أنه لا يتحدث عن قضية الاحتلال، ولا يراها ذات أهمية لفهم دائرة العنف الحالية، وبنفس المعنى فهو لا يتحدث عن تاريخ الممارسات الإسرائيلية بحق الشعب الفلسطينى منذ 1948 وما قبلها وحتى اليوم. فهذا الخطاب يبدأ من يوم 7 أكتوبر مسقطا تاريخ الصراع وكذلك السياق الذى جاء فى إطاره هذا الهجوم من حماس. وهو الأمر الذى أشار إليه الأمين العام للأمم المتحدة نفسه من أن «هجمات حماس لم تحدث من فراغ. فقد تعرض الشعب الفلسطينى لـ 56 عاما من الاحتلال الخانق». وردت إسرائيل على هذا الأمر بمطالبته بتقديم اعتذار أو الاستقالة من منصبه بسبب تصريحاته تلك، والتى تربك الخطاب التى تود إسرائيل أن يهيمن على دوائر السياسة والإعلام فى الغرب.
يتجاوز الخطاب الإسرائيلى مجرد الكذب فى وقائع بعينها، إلى محاولة وضع إطار مغاير للصراع الدائر الآن فى فلسطين. ليصير العنوان الرئيسى هو الحرب على الإرهاب، وليكون السؤال الأول هو دوما «هل تدين الإرهاب أم لا؟»، وليختفى تماما من هذا الجدل أى حديث عن الاحتلال، والتهجير القسرى، وحق الشعوب فى مقاومة الاحتلال. فمن يختار السؤال الأول، يفرض رؤيته على الحوار بأكمله. وهو الأمر الذى تجيد إسرائيل دوما فعله.
أستاذ مساعد بالجامعة الأوروبية بفلورنسا