لا أحد يفهم الديون

بول كروجمان
بول كروجمان

آخر تحديث: الأحد 8 يناير 2012 - 9:05 ص بتوقيت القاهرة

فى عام 2011، كما فى عام 2010، شهدت أمريكا انتعاشا تقنيا، وإن استمرت معاناتها من ارتفاع معدل البطالة بصورة مفجعة. ودارت جميع الحوارات فى واشنطن معظم عام 2011، كما فى عام 2010، حول شىء آخر، وهو قضية تقليل عجز الميزانية التى زعموا أنها ملحة.

 

ويوحى هذا الاهتمام، المركَّز فى غير محله، بأشياء كثيرة حول ثقافتنا السياسية، على رأسها مدى انفصال الكونجرس عن معاناة عموم الأمريكيين. ولكنه كشف أيضا شيئا آخر؛ فعندما يتحدث الناس فى العاصمة عن العجز والدَّين، فهم عموما لا يدركون شيئا عما يتحدثون عنه ومن يتحدثون أكثر، هم من يفقهون أقل.

 

وكان الأمر الأشد وضوحا هو الخطأ الفادح من جانب «الخبراء» الاقتصاديين، الذين يوليهم الكونجرس ثقته الكبيرة مرارا وتكرارا، فى تقدير تأثير عجز الميزانية فى الأجل القصير. لقد كان الأشخاص المعتمدون فى تحليلاتهم الاقتصادية على أماكن مثل هيرتيدج فاونديشن، ينتظرون منذ تولى الرئيس أوباما السلطة، أن يتناول قضية عجز الميزانية فيجعل أسعار الفائدة تحلق فى السماء. وبينما هم ينتظرون، هوت تلك الأسعار إلى حدٍ لم تنخفض إليه من قبل. وربما تظنون أن هذا سيجعل السياسيين يعيدون التفكير فى اختيارهم للخبراء لكن هذا، الذى قد تظنونه إذا كنتم لا تعلمون شيئا عن ما بعد حداثتنا، سياسة بعيدة كل البعد عن الواقع.

 

لكن واشنطن لا يختلط عليها الأمر فى الأجل القصير فقط؛ فهى مرتبكة أيضا بخصوص الأجل الطويل. وإذا كان الدَّين قد يسبب مشكلة فى بعض الوقت، فإن أسلوب تفكير السياسيين والخبراء لدينا خاطئ تماما، ويفاقم من حجم المشكلة.

 

●●●

 

يتصور القلقون من العجز مستقبلا اننا سنبدو فيه فقراء بسبب ضرورة رد الأموال التى اقترضناها. وهم يرون أمريكا كما لو كانت أسرة أكثرت فى رهن أملاكها، وسيتحتم عليها أن تعيش ظروفا صعبة حتى توفر مدفوعات الرهن كل شهر.

 

إنه على أى  حال قياس سيئ من زاويتين على الأقل.

 

الأولى: لابد للأسر من تسديد ديونها. لكن الحكومات ليست كذلك؛ فكل ما تحتاج الحكومة القيام به هو ضمان أن نمو الدَّين أبطأ من نمو قاعدتها الضريبية. فلم تسدد ديون الحرب العالمية الثانية على الإطلاق؛ وإنما أصبحت بشكل متزايد خارج سياق الزمن، بما أن الاقتصاد الأمريكى كان ينمو، ونما معه الدخل الخاضع للضريبة.

 

الثانية: نقطة لا يبدو أن هناك من أدركها تقريبا؛ فالأسرة المثقلة بالديون مدينة بالمال لشخص آخر؛ أما دَين الولايات المتحدة، فهو إلى حد كبير أموال مدينون بها لأنفسنا.

 

وكان هذا صحيحا بوضوح فيما يتعلق بالدَّين الذى تكبدناه حتى نكسب الحرب العالمية الثانية. وإذ وقع دافعو الضرائب تحت حصار دَين تفوق نسبته من الناتج المحلى الإجمالى نظيرتها بالنسبة للدين الحالى بدرجة كبيرة، لكن هذا الدَّين كان مملوكا لدافعى الضرائب أيضا، مثلهم فى ذلك مثل جميع الأشخاص الذين اشتروا سندات الادخار. ولذلك لم تفقر الديون أمريكا بعد الحرب العالمية. وعلى الأخص، لم تحل الديون دون جيل ما بعد الحرب والوصول إلى أكبر زيادة فى الدخول ومستويات المعيشة عرفتها بلادنا فى تاريخها.

 

لكن ألسنا فى زمن مختلف؟ نعم، ولكن ليس بالقدر الذى تظنون.

 

●●●

 

صحيح أن الأجانب لديهم استحقاقات كبيرة على الولايات المتحدة، بما فى ذلك مبلغ لا بأس به من دَين الحكومة. لكن كل دولار مستحق للأجانب على أمريكا يقابله 89 سنت مستحقاً للولايات المتحدة على الأجانب. ولأن الأجانب يميلون لوضع استثماراتهم بالولايات المتحدة فى أصول آمنة منخفضة العائد، فأمريكا تربح واقعيا من أصولها بالخارج أكثر مما تدفع للمستثمرين الأجانب. وإذا دارت فى خيالكم صورة الدولة الواقعة تحت حصار شديد من الصينيين، فمعلوماتكم خاطئة. بل إننا لا نسير فى هذا الاتجاه بسرعة.

 

والآن، لا يشبه الدَّين الفدرالى فى شيء وضع مستقبل أمريكا فى ظل الرهن. لكن هذه الحقيقة لا تعنى أن الديون غير ضارة. إذ ينبغى جمع ضرائب من أجل تسديد الفائدة، ولست فى حاجة لأن تكون مُنظٍِّرًا أيديولوجيًّا من الجناح اليمينى لتعترف أن الضرائب تفرض بعض التكلفة على الاقتصاد، حتى إذا اقتصر الأمر على التسبب فى تحويل الموارد بعيدا عن الأنشطة الإنتاجية والانصراف إلى تجنب الضريبة والتهرب منها. غير أن تلك التكاليف أقل درامية بكثير عما قد يوحى به التمثيل بالأسرة المثقلة بالديون.

 

وهذا هو السبب فى أن الدول التى لها حكومات مستقرة ومسئولة وهى حكومات مستعدة لفرض ضرائب أعلى إذا ما اقتضى الأمر استطاعت تاريخيا التعايش مع مستويات دَين أعلى بكثير مما تدفعكم الحكمة المعهودة إلى الاعتقاد به. فقد كان لدى بريطانيا خاصةً ديون تتجاوز 100% من الناتج المحلى الإجمالى طوال 81 سنة، من بين آخر 171 سنة. وعندما كان كينز يكتب عن ضرورة الإنفاق كسبيل للخروج من الكساد، كانت بريطانيا تغوص فى الدَّين أعمق من أى دولة متقدمة اليوم، باستثناء اليابان.

 

وبالطبع، ومع الحركة المحافظة الموجودة فى أمريكا التى تسارع إلى رفض للضرائب، قد لا تكون لدينا حكومة مسئولة بهذا المعنى. لكن فى هذه الحالة العيب ليس فى الديون، بل العيب فينا. وبالتالى، فالديَّن شيء مهم. لكن الآن، هناك أمور أكثر أهمية. إذ يلزمنا المزيد من الإنفاق الحكومى، وليس التقليل منه، حتى يخرجنا من فخ البطالة. غير أنه يقف فى طريق ذلك، مهوسون بالديون، ومصرون على خطئهم، ومفتقرون إلى المعلومات.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved