ماجدة الجندى.. قيمة إنسانية ومهنية كبرى
إيهاب الملاح
آخر تحديث:
السبت 8 يناير 2022 - 9:40 م
بتوقيت القاهرة
(1)
رحلت الأستاذة والكاتبة والمعلمة الكبيرة ماجدة الجندى عن عالمنا قبل أسابيع قليلة. كان رحيلها مفجعا ومؤلما جدًّا لكل من عرفها واتصل بها وأدرك قيمتها؛ قيمتها الإنسانية قبل المهنية، وقيمتها الوطنية قبل الثقافية، وقيمتها ككاتبة ومحررة ثقافية أسست مدرسة «محترمة» فى الصحافة الثقافية تخرَّج فيها أسماء صاروا الآن بدورهم فى صدارة المشهد الإبداعى والفكرى والثقافى والصحفى.
لم يسعفنى الحظ بكامل التلمذة المباشرة على يدى المرحومة ماجدة الجندي؛ التلمذة التى حظى بها آخرون يجاهرون بالفخر، ولهم كامل الحق فى هذا الفخر والانتساب، بأنهم تتلمذوا على يديها وتعلموا منها وتخرجوا فى مدرستها الإنسانية والثقافية. كانت تنتمى إلى هذا الجيل العظيم الذى عشق الثقافة والصحافة والكتابة، وعلمنا الكثير.
لكن إن كان فاتنى حظ التتلمذ المباشر عليها، فلم يفتنى لقاؤها فى منزلها بالمعادى، وفى حجرة الصالون العامرة بالكتب والمجلدات؛ العلامة الأيقونية والبصرية التى تظلل اسمى ماجدة الجندى وجمال الغيطانى.
(2)
كانت رحمها الله تتابع ما أكتب بانتظام، وما أنشر، بعينٍ محبة ومشجعة ومقدرة، وحينما أصدرت كتابى «شغف القراءة» بادرت بتهنئتى، وطلبت أن نلتقى فى أقرب مناسبة كى أحدثها عن الكتاب وما سبقه من كتب (خاصة كتابى عن دار المعارف) كما راقها جدًّا ما كتبته آنذاك من مقالات عن اللغة العربية، وما تعانيه من إهمال وما تواجهه من تحديات (هنا على صفحات الشروق).
وأذكر جيدا أنها تواصلت معى ومع أخى وصديقى الناقد الكبير محمود عبدالشكور فى التوقيت ذاته، وكم كانت سعادتنا بهذا الاتصال وهذه الحفاوة، كانت ودودة جدًّا، وتقرأ بشغف ما كنا نكتبه وننشره على صفحتينا على «فيسبوك».
وفى صيف 2018، وجهت لى دعوة كريمة لزيارتها، ولبيتُ الدعوة سعيدًا فرحًا، ومقدرا لهذا الشرف، ومعتبرًا أنها أكبر جائزة حزتها منذ احترفت الكتابة والنشر، ذلك أن لقاء قامة رفيعة وخبرة عريضة وتجربة مهنية وثقافية وإنسانية لا مثيل لها، هى بمثابة الجائزة التى لا نظير لها، والخبرة التى يمكن تضاف إلى رصيد خبراتك من هذا اللقاء خبرة فريدة، مقطرة ومصفاة ومكللة بالحكمة والنظر والتأمل.
(3)
التقينا وتحدثنا وتحاورنا، لما يزيد على الساعتين، طلبت منى أن أحدثها عن علاقتى بالغيطانى الذى لم أره فى حياتى كلها سوى مرات معدودة؛ كان اللقاء الأول منها لحوارٍ أجريته لمجلة (أكتوبر) فى 2009، وكان آخرها فى ندوة نظمها المعهد الثقافى الفرنسى، وتحدث فيها الغيطانى، وذلك قبل رحيله بعام واحد أو اثنين لو لم تخنى الذاكرة.
كانت مندهشة ــ رحمها الله ــ من تتبعى لسيرة وتراث وإنتاج الغيطانى الإبداعى، وغير الإبداعى، وزادت دهشتها وتعمقت حينما أطلعتها على أرشيفى الخاص للمرحوم الغيطانى، واقترحتُ عليها آنذاك ضرورة إصدار كتاب تذكارى ضخم يضم كل ما كتب عن المبدع والمثقف الراحل، مفهرسا ومبوبا ومصنفا، وقد استحسنت الفكرة وطلبت منى أن أقدم لها تصورى لهذا الكتاب وتخطيطه ومقترح بأسماء المشاركين فيه... إلخ.
وبدورها، أدهشتنى هى ــ رحمها الله ــ من قراءتها لكل حرفٍ كتبته عن المرحوم الغيطانى، ولم يكن قليلًا ما كتبت؛ كتبتُ عن إسهامه الكبير فى نشر التراث العربى والإسلامى، والتحريض على قراءته، واكتشاف كنوزه، كتبتُ عن سياحاته وجولاته الممتعة فى عوالم التراث الصوفى والتاريخى، وكتب الحوليات القديمة. أدهشنى جدًّا أنها قرأت ذلك كله، وتوقفت عند بعضه متسائلة حينًا، ومستفسرة حينًا آخر، ومستوضحة فى حال ثالثة.. إلخ.
وحينما تكلمتْ هى، كنت أسمع منها وأتعلم وأحفظ فى ذهنى بوارقها النقدية اللامعة، ونظراتها العميقة، ورؤاها ومتابعاتها الفاحصة لكل ما يدور على الساحة الثقافية المصرية والعربية من ظواهر ونشاطات وصراعات، كل شيء.. كانت تقرأ البشر جيدًا؛ لها تقدير خاص، ولها موقف محدد، ولها تقييم لكل من عرفته عن قريب أو بعيد، تحلل الشخصية، وتحلل أبعادها، وتضع يدها باقتدار على أهم وأبرز مفاتيحها.
كانت واعية تماما بكل ما تعج به الحياة الثقافية المصرية، والسياسية والاجتماعية أيضًا، تقرأ بدأب وتتابع بانتظام، ترصد بعينيها اللاقطتين كل ما يبشر بالموهبة، وتشجعه وتثنى عليه، وكانت تحذر من كل ما ينشر الفوضى ويخرب الذائقة، ويسطح الوجدان ويحجم العقل ويشوه المعرفة.
(4)
من بين ركام يعد بالمئات ادّعى أصحاب هذا الركام أنهم يعرفون نجيب محفوظ، وأنهم وثيقو الصلة به وببيته، يأتى ما كانت تكتبه ماجدة الجندى؛ مقالًا أو حوارًا أو تحقيقًا عن محفوظ وبيته وأسرته كأشعة الشمس الدافئة الحانية العفية لتبدد العابر والزائف والمدعى والانتهازى.. حوارها فى جريدة «الدستور» الذى نشرته على حلقتين، مع أستاذى وصديقى الناقد الدكتور حسين حمودة، كان من أهم ما قرأت حول تراث وأدب ونقد نجيب محفوظ فى السنوات الأخيرة.
كتبت لها ذات مرة تعقيبًا على حوار أجرته مع ابنة محفوظ «دون مجاملة ولا مبالغة هذه المادة من أرق وأصفى وأصدق ما قرأت عن بيت نجيب محفوظ وأسرته وصورة وصفية أمينة ودقيقة لحياته بعيون ابنتيه. تسلم إيديك وعينيك يا أستاذتنا.. وربنا ما يحرمنا منك ولا من كتابتك الرائقة الراقية»..
(5)
مع السلامة يا أستاذة ماجدة.. سيرتك باقية وعطرة.
وأحبابك يذكرونك دومًا.. حاضرة وباقية بجميل قولك وفعلك وسيرتك..
ولا يبقى إلا السيرة.. وحدها تعيش طويلا، أطول من عمر صاحبها بكثير.