لماذا يغيب الحكم الرشيد فى مصر؟
مصطفى كامل السيد
آخر تحديث:
الإثنين 8 فبراير 2010 - 9:42 ص
بتوقيت القاهرة
تثير شبهات استغلال النفوذ التى تدور حول الدكتور محمد إبراهيم سليمان تساؤلات كثيرة حول مدى تغلغل الفساد داخل النخبة الحاكمة فى مصر، وأسباب تكرار الاتهامات لكبار المسئولين إما بتورطهم، أو بوجود ممارسات فاسدة بين المحيطين بهم. وليس هناك ما يدعو للتذكرة بأن مثل هذه الشبهات لم تقتصر على الدكتور سليمان، فقد حوكم بالفعل بتهمة استغلال النفوذ مسئولون كبار فى وزارات الزراعة والثقافة والإعلام ومحافظ سابق، وأعضاء فى مجلس الشعب..وإذا كانت المحاكمات قد أسفرت عن تبرئة بعضهم، وإدانة البعض الآخر، وهرب فريق ثالث، فلاشك أن الانطباع السائد بين المواطنين هو أن الفساد منتشر، وأن كبار الفاسدين لا يطولهم القانون.
وليس مثل هذا الحكم وليد انطباعات متسرعة، أو هو مجرد دعاية معادية يروج لها خصوم الحزب الديمقراطى الحاكم، وإنما تشير التقارير الدولية ذات المصداقية، والتى تعتمد على لقاءات مع من يتعاملون مع كبار المسئولين، ومن يستطيعون معرفة دقائق عملية صنع السياسة فى مصر، وخصوصا من بين رجال الأعمال، أن مصر قد أصبحت تحتل مكانة متدنية على سلم دول العالم من حيث مدى انتشار الفساد فيها، وأنه بينما ارتقت دول أخرى على نفس هذا السلم، فإن مكانة مصر تهبط عاما بعد آخر.
مصر فى تقارير منظمة الشفافية الدولية
فالمؤشرات التى تعدها سنويا منظمة الشفافية الدولية، وهى منظمة تتمتع بقدر كبير من المصداقية،تظهر أولا أن أكثر من نصف رجال الأعمال(52%)الذين التقى بهم مسئولو المنظمة يرون أن جهود الحكومة المصرية فى مكافحة الفساد هى جهود غير فعالة، ثلثهم تقريبا(29%) يرون أنها غير فعالة على الإطلاق، وحوالى ربعهم(23%)يذهبون إلى أنها غير فعالة. بينما لا يرى فعالية هذه الجهود سوى ربع هؤلاء، وأقلية قليلة جدا(9%)ترى أنها فعالة جدا. ومن حيث أكثر القطاعات تأثرا بممارسات الفساد، وعلى أساس مؤشر من خمس درجات يحصل فيه القطاع الأكثر فسادا على خمس درجات، ويحصل القطاع الأقل فسادا على درجة واحدة، ذهب رجال الأعمال هؤلاء إلى أن القطاعات التى توجد فيها ممارسات فاسدة، وبصفة رئيسية تنتشر فيها الرشوة وبدرجة تفوق المتوسط(أى أكثر من ثلاث درجات) هى على وجه الترتيب التسجيل ومنح التراخيص والمؤسسات التعليمية والشرطة والخدمات الطبية والجمارك والتشريعات البرلمانية وأجهزة الإعلام، وحصلت جميعها فى تقديرهم على ثلاث درجات من هذا المؤشر..هو ما يساوى فى تقديرات الجامعات 40%أو تقدير ضعيف.
ولذلك لم يكن غريبا أن تتدنى مكانة مصر على المؤشر العام لإدراك الفساد إلى111، وذلك من بين مائة وثمانين دولة، وحصلت مصر على2.6 من عشر درجات فى ترتيب تنازلى، أى أن الدولة الأقل فسادا تقترب من عشر درجات، بينما تقترب الدولة التى يسود الاعتقاد بانتشار الفساد فيها من الصفر. وبلغة الجامعات حصلت مصر وفقا لهذا المؤشر على تقدير ضعيف جدا، وتسبقها من الدول العربية على هذا المؤشر فى ترتيب تصاعدى يبدأ بالأكثر فسادا كل من المغرب والكويت وتونس والمملكة العربية السعودية والأردن والبحرين وعمان والإمارات وقطر التى تحتل المكانة الثانية والعشرين، ويفوق إدراك وجود الفساد ما هو شائع عن مصر فى عدد من الدول العربية هى فى ترتيب تنازلى يبدأ بالأقل فسادا كل من سوريا ولبنان وليبيا واليمن والعراق والسودان والصومال. وتحتل الدول الثلاث الأخيرة مواقع بين الدول الخمس الأكثر فسادا فى العالم، وتأتى الصومال على أدنى درجات هذا المؤشر.
وكانت مصر حتى سنوات قليلة تشارك دولا مثل الهند والصين والبرازيل نفس المكانة، ولكن أوضاع الشفافية قد تحسنت فى هذه الدول جميعها بحيث تفوقت كلها نسبيا على مصر. فقد أصبحت البرازيل ترتفع إلى المكانة الخامسة والسبعين, الصين تحتل المكانة التاسعة والسبعين، والهند تحتل المكانة الرابعة والثمانين، وتراوحت درجاتها مابين3.4و3.7،وذلك من عشر درجات.
وربما يكشف تأمل الدول التى تحتل المواقع العشرة الأولى على هذا المؤشر بعض أسباب سيادة الشفافية وانحسار الفساد، وهذه الدول فى ترتيب تنازلى يبدأ بالأكثر شفافية هى نيوزيلندا والدنمرك وسنغافورة والسويد وسويسرا وفنلندا وهولندا واستراليا وكندا وأيسلندا..وهى باستثناء سنغافورة دول متقدمة اقتصاديا وذات نظم ديمقراطية وطيدة. أما سنغافورة فقد كانت حتى وقت قريب واحدة من الدول الصناعية الجديدة قبل أن يتحول اقتصادها إلى الخدمات، ونظامها السياسى ليس ديمقراطيا تماما وإن كان يقوم رسميا على تعدد الأحزاب. وإذا كان كل من التقدم الاقتصادى وسيادة الديمقراطية يوفران السياق الملائم لوأد الفساد إلا أن حالة سنغافورة، مع وجود دول متقدمة اقتصاديا وذات نظم ليبرالية وتحتل مكانة متأخرة نسبيا على هذا المؤشر مثل إيطاليا التى تقع فى المكانة الثالثة والستين، تكشف عن أن هناك عوامل أخرى غير هذين العاملين ربما تكون الإرادة السياسية لمكافحة الفساد واحدا منها، وهو ما يميز سنغافورة، بالإضافة إلى انتشار ثقافة سياسية بين النخبة الحاكمة والمواطنين تنبذ الممارسات الفاسدة.
الحكم الرشيد شرط مقاومة الفساد
النتيجة التى تترتب على وجود هذه العوامل الأربعة هى تميز النظام السياسى بما يسمى الحكم الرشيد، أى بأسلوب فى الحكم يتسم بالرشادة والعقلانية، بالفعالية فى تحقيق أهدافه على أحسن وجه، وبأقل التكاليف الممكنة.. وسمات الرشادة هذه يوفر النظام الديمقراطى بعض أسسها، ولكنه لا يوفرها كلها بالضرورة. ولذلك يمكن أن يغيب الحكم الرشيد عن دولة بها تقاليد ديمقراطية مثل إيطاليا، ويمكن أن يظهر فى دولة أقرب إلى نظام سلطوى مثل سنغافورة. ولكن ما هى سمات الحكم الرشيد هذه؟ وهل تتوافر فى مصر؟ وإذا لم تكن تتوافر، فما هى أسباب ذلك؟ وما علاقة ذلك بمستويات الفساد المرتفعة التى تشير إليها تقارير المؤسسات الدولية.
لا يتسع هذا المقال لمناقشة تفصيلية لسمات الحكم الرشيد، ولذلك يكتفى بإيراد أهمها، وعرض ملاحظات سريعة عن مدى توافرها فى النظام السياسى المصرى. أهم هذه السمات هى حكم القانون، وعدم تركيز السلطة،والرشادة فى صنع القرار، والشفافية،والمساءلة،فضلا عن العدالة فى توزيع أعباء السياسات العامة ومنافعها، والفعالية، ووجود رؤية إستراتيجية، والسعى لبناء التوافق..الخ.
الشرط الأول للحكم الرشيد هو حكم القانون..أى احترام القانون من جانب الحاكمين والمحكومين. ولكن ليس المقصود بذلك أى قانون، ولكن وصف القانون ينطبق فقط على تلك القواعد التى تصدر لتحقيق مصلحة عامة،وتتسم بالإنصاف، ويقصد منها أن تنطبق على الجميع. ولا يعتبر حكما للقانون تلك القواعد التى تصدر خدمة لمصالح خاصة. ولذلك لا نعجب لما ذكره الدكتور محمد إبراهيم سليمان فى مقابلته مع الإعلامى عمرو الليثى من أن تخصيصه لأراض لزوجته وأولاده تم وفقا للقانون. ليس مثل هذه القوانين التى أشار إليها وزير الإسكان السابق ما يتفق مع المقصود بحكم القانون فى إطار الحكم الرشيد.
والشرط الثانى هو عدم تركيز السلطة.. وهو ما يعانى من غيابه نظامنا السياسى. فلنقارن سلطات رئيس الدولة بسلطات رئيس الوزراء.. ولنقارن سلطات الوزراء بسلطات المحافظين.. ولنقارن سلطات هؤلاء بسلطات المجالس المحلية فى الحضر والريف.. لماذا يكون تعيين رؤساء الجامعات هو سلطة لرئيس الدولة. ولماذا تشترط موافقة رئيس الجامعة على سفر أى من أعضاء هيئات التدريس الجامعية، والتى يتجاوز عددهم خمسة آلاف فى جامعة القاهرة، ولماذا تتأخر محاولات إصدار قانون يوفر مزيدا من السلطات للمجالس والهيئات التنفيذية المحلية. إن تركيز السلطة فى مصر يبلغ حدودا لا تمكن المسئول من ممارسة كل اختصاصاته التى لا يتسع لها وقته ولا قدراته، وهو ما يفتح الباب أمام غياب الرقابة عليها أو ممارسة آخرين لها.
وحدث بلا حرج عن غياب الرشادة فى صنع القرار فى مصر. المنطق غائب عن عديد من القرارات فى العديد من المشروعات، وبعيدا عن قرارات السياسة الخارجية التى أعيت المراقبين بحثا عن تفسير لها يتفق مع المصلحة القومية لمصر، فالأمثلة عديدة على افتقاد الرشادة فى مشروعات التنمية، بدءا مما يسمى بتنمية جنوب مصر أو مشروع توشكى الذى تواضعت أهدافه الطموحة المعلنة فى البداية من استصلاح ثلاثة ملايين ونصف المليون فدان إلى الاكتفاء بخمسمائة ألف وخمسين ألف حول القناة التى يجرى شقها لنقل مياه النيل بدلا من الاعتماد على مصادر المياه الجوفية كما قيل مسبقا، إلى مشروع فوسفات أبو طرطور الذى مازال مستمرا فى استنزاف موارد مالية هائلة رغم تقارير عديدة بعضها من مجلس الشعب بعدم جدواه اقتصاديا، إلى مشروع جراج رمسيس الذى جرى هدمه بعد بناء قسم كبير منه.
أما غياب الشفافية فيدركه المواطن فى تعامله مع عدد من أجهزة الدولة، وخصوصا فى المحليات، وحتى عهد قريب فى التعامل مع البنوك. الذى يتبع القواعد لا يحصل على ما يريد، والذى يلتف حول القواعد يحصل على كل ما يريد. أليس هذا هو الدرس الذى نخرج به من قصة الديون المتعثرة لدى البنوك، وهى ديون تراكمت على كبار العملاء والذين لم يلتزموا بكل تأكيد بقواعد الجدوى الاقتصادية عندما استعانوا بأصحاب النفوذ للحصول على قروض بعشرات، بل ومئات الملايين من الجنيهات لتمويل مشروعات خاسرة.
وأخيرا تشهد على غياب المساءلة السيرة الذاتية للعديد من كبار المسئولين الذين أفرطت الصحف فى الحديث عن فسادهم، وانتهى الأمر إما بتجاهل ما كتبته الصحف، أو بتوجيه الشكر لهم فى مجلس الشعب، أو بانتقاله إلى جدول الأعمال، أو بتبرئتهم قضائيا أو إصدار أحكام خفيفة عليهم، أو بهربهم فى ظروف غامضة خارج البلاد، أو بالتعويل على ضعف ذاكرة الشعب المصرى كما هو الحال فى قصة جامعة النيل، تلك الجامعة الأهلية التى يجرى إنشاؤها بالتمويل الكامل من جانب الدولة، لأن تلك رغبة رئيس الوزراء.
غياب الإرادة السياسية لوضع أسس الحكم الرشيد
ولكن لماذا يغيب الحكم الرشيد فى مصر إذا كان وجود نظام ديمقراطى ليس شرطا وحيدا لظهوره، كما هو الحال فى سنغافورة. يمكن أن يقوم الحكم الرشيد إذا ما توافرت شروط ثلاثة أخرى.. منها انتشار ثقافة تشدد على النزاهة وطهارة اليد، والارتقاء بمستوى معيشة المواطنين، ووجود إرادة سياسية لمكافحة الفساد. وللأسف الشديد ثقافتنا تضع مصلحة الفرد والعائلة والأقارب قبل المصلحة العامة، والفقر الذى يعم بين قطاعات المتعلمين وفيهم موظفو الحكومة يشجع على انتشار الفساد الصغير الذى نلمسه فى تعاملنا مع أجهزة الدولة فى حياتنا اليومية، وغياب الإرادة السياسية يشهد عليه عدم إصدار قانون لمحاكمة الوزراء رغم النص عليه فى دستور1971، ورفض أغلبية أعضاء مجلس الشعب عدم الانتقال إلى جدول الأعمال قبل الانتهاء من مناقشة الاستجوابات..