خواجة من شبرا
داليا شمس
آخر تحديث:
السبت 8 فبراير 2025 - 7:45 م
بتوقيت القاهرة
يمضى بنا الصحفى القدير توماس جورجيسيان فى كتابه «إنها مشربية حياتى… وأنا العاشق والمعشوق» من قصة إلى قصة متبعا نهج الحكائين الأرمن الذين تربى على أسلوبهم. يروى ذكرياته على طريقته بتسلسل منطقى خاص به. يحكى كما يتحدث، وهو لمن يعرفه يحب «الرحرحة»، هذه الكلمة التى يكررها كثيرا فى الكتاب الصادر أخيرا عن دار الشروق ليصف الونس فى الكلام ودفء التواصل الإنسانى كما نجده لدى مؤلفين مشهورين من أصول أرمنية مثل ويليام سارويان ولدى الرواة التقليديين ومبدعى حواديت الأطفال فى بلاد أجداده. يقول جورجيسيان: «الحكاية (وتسمى فى الأرمنية هيكيات) تنتهى عادة فى التراث الأرمنى بأن يقول الراوى إن ثلاث تفاحات وقعت من السماء. التفاحة الأولى لمن يحكى الحكاية، والثانية لمن يسمعها، وأما الثالثة فلمن يمر بها وينصت إلى تلك الحكاية»، فنحن جميعا شركاء فى اللعبة. وقد تعلم من أمه تفانين الحكى واللعب بالخيال، لأنها كانت قادرة على سرد الحدوتة نفسها مع تغيير مستمر فى صياغتها لكى تبدو دائما مختلفة، كما استهواه حماس الحكواتى عند توفيق الحكيم الذى تعرف عليه وهو فى الثمانينيات من عمره لكنه احتفظ بشقاوة تفكيره وبراعته فى إثارة الدهشة.
بالنسبة إلى توماس جورجيسيان الحكى وسرد الذكريات هو حق وواجب، نوع من الاعتراف بالجميل كما جاء على لسان أمريكى آخر من أصل أرمنى وهو المليونير جورج مارديكيان الملقب بملك المطاعم وصاحب كتاب «أغنية أمريكا»، الذى زار مصر وأحب أهله «لأنه ابتسم له وللأرمن». وخلال محاولاته لفهم من حوله وحتى أقرب الناس إليه يحاول توماس أن يعرف نفسه أكثر ويتقبلها. لا يهم أن يشوب الكتاب بعض التكرار أحيانا، فالكبار عادةً ما يذكرون الحكاية نفسها أكثر من مرة، وهو قد اتبع منهج من جلس ليحكى ويؤكد مرارا وتكرارا «أنه لأمر مهم أن يكون لك تاريخ، ولكن الأمر الأهم أن تكون لك ذاكرة». ويتساءل: «الخالق أعطانى نعمة التذكر والخيال والحكى (...) فلماذا لا أستعمل هذه النعم معا وأشاطرها معك ومع الآخرين؟».
• • •
ينطلق فى كل فصل من صورة بعينها. صورة بألف كلمة، يبحث عنها فى كل زمان وفى كل مكان مثلما يكتب دائما على صفحته بالفيسبوك حين ينشر صورا ورسومات، مع إضافة تعليقاته اللطيفة والثرية. غالبا اكتسب ذلك من شغفه بالصحافة التى عمل بها لسنوات طويلة وما زال، واهتمامه بشكل وترتيب الصفحات فى الجرائد.
يبدأ بصورة عائلية يرجع تاريخها لنهاية أربعينيات القرن الفائت، فيذكر أنه تم التقاطها فى شارع الجيزة بالقرب من المقهى الذى كان يديره عم والده. ثم نتابع مصائر كل من فى الصورة وأولادهم وربما أحفادهم. ننظر إلى الصورة فنرى خريطة العالم ونكتشف مسارات عائلة أرمنية، عاش ومات بعض أفرادها فى حى شبرا بالقاهرة، ونُفى بعضهم إلى سيبيريا أو انتقلوا إلى أمريكا، فى حين عاد البعض الآخر إلى يريفان حين سمحت لهم الظروف. كما نتعرف على لمحات من حياة الأرمن هنا وهناك، فيذكر مثلا أن مقهى الجيزة كان قريبا من شركة الدخان «ماتوسيان» التى عمل فيها عدد كبير من الأرمن، وتعودوا قضاء أوقات فراغهم به للعب الطاولة والدومينو.
يتطرق أيضا لتاريخ مذابح الأرمن والإبادة الجماعية التى تعرضوا لها خلال الحرب العالمية الأولى ووصول والده إلى مصر بعد أن فقد أباه وأخته فى مياه الفرات أثناء هروبهم. التزم أبوه صمتا محيرا، فقد انتمى لجيل بلا طفولة بسبب ظروف الحرب، وفى مواضع كثيرة من الكتاب يقارن المؤلف بين مصير الأرمن والفلسطينيين وغيرهم من الشعوب المنكوبة. يقتبس كلمات محمود درويش، فيردد: «مازلنا هنا ومازلنا أحياء».
وعندما أصر يوما على أبيه وأراده أن ينبش الماضى رد عليه بنظرة ثاقبة: «هل تريد منى أن أتذكر ما حاولت أن أنساه على مدى سنوات عمرى؟ هل تريد منى أن أسترجع لحظات أنا لا أريد أن تأتى أو تعود لا إلىّ أنا ولا إليك أنت من جديد ولو حكاية؟».
أمام هذا الصمت قرر توماس أن يستعمل حق أبيه وحقه فى الكلام، ولاذ بطريقة أمه فى التعامل مع الصدمات، فقد كانت لا تملك رفاهية الشكوى، بل اندمجت فى الحياة المصرية وحولت شقتهم فى شارع الترع البولاقية بشبرا إلى أرمينيا مصغرة، احتضنت بين جدرانها اللغة الأرمنية وحواديتها وأشعارها وأغنياتها.. ملأت دنياهم بالطبطبة، ربما لكى توازن صمت الأب الذى كان يقرأ جريدة «الأهرام» صباحا وصحيفة «الهوسابير» الأرمنية مساءً.
• • •
حياة توماس الذى اشتغل كصيدلى فى بداياته بأجزاخانة فى شارع عماد الدين ستتأرجح طويلا بين هاتين الصحيفتين. مدّه التعامل اليومى مع البشر بالمزيد من الحكايات، كما علمته دراسته لعلوم الكيمياء والدواء أن الكلام المكتوب مثل تركيبة الدواء «الجرعة الفعالة (كمية المادة) يجب أن تكون محددة ومحدودة بدقة بحيث تكون علاجا». ومع اتساع الرؤية ازدادت قدرته على تحقيق المعادلة الصعبة، خاصة فى ظل مخالطته لكبار الصنعة مثل توفيق الحكيم ونجيب محفوظ وحسين فوزى ويوسف إدريس وإحسان عبد القدوس وأحمد بهاء الدين وصلاح جاهين وكمال الملاخ ومصطفى أمين ولويس جريس وبيكار وإيهاب شاكر وغيرهم من الذين اقترب منهم واستمتع بصحبتهم واستخلص الدروس المستفادة من تجربتهم كما فى نهاية الحواديت.
كان حريصا أن يكون فى حضرتهم وأن يراقبهم طوال فترة الثمانينيات التى امتهن فيها الصحافة وحصل على ماجستير من الجامعة الأمريكية حول كُتاب الأعمدة فى مصر. وذلك قبل أن يسافر للعمل كمراسل صحفى فى واشنطن عام 1991 برفقة زوجته الأمريكية ليز، ويرزق بابنته مارجريت «روحه» التى يحكى للكل عنها وعن ابتسامتها.
الحكايات والصور تتعاقب فى صندوق الدنيا العجيب الذى كونه توماس عبر السنين، وقد اندمج فى العيش بمصر حيث ولد فى أول أغسطس عام 1957، وصار يداعب كل من يلقبه بالخواجة ضاحكا: «ما خواجة إلا الشيطان!». ومازالت فى جعبته حكايات أخرى لم يتسع المجال لذكرها حول مرحلة المراسل الصحفى فى واشنطن، مركز صنع القرار حيث «الأمور واضحة وقواعد اللعبة محددة»، «فأقصر طريق إلى واشنطن يمر عبر تل أبيب». ونحن فى انتظار الجزء الثانى من الكتاب.