نمط الاستهلاك في مصر على ضوء أزمة الغذاء العالمية
كريم ملاك
آخر تحديث:
الجمعة 8 أبريل 2022 - 8:25 م
بتوقيت القاهرة
فى اجتماع مجلس الوزراء بتاريخ ١٧ أغسطس ٢٠١١ تطرق وزير التضامن الاجتماعى الدكتور المخضرم جودة عبدالخالق لموضوع غريب: المحشى. استعجب الحاضرون، بحسب شهادة وزير الإعلام السابق أسامة هيكل فى كتابه «١٥٠ يوما فى تاريخ مصر»، وظنوا أنه يمزح، إلا وأنه استرسل بكل جدية أن مافيا تجار الأرز يسيطرون على السوق ويتحكمون فى السعر، محققين مكاسب طائلة على حساب المستهلك والمزارع البسيط. طالب الأستاذ جودة بتغيير طريقة عمل المحشى، وأكنه الشيف شربينى على التليفزيون، شارحا أن علينا أن نستبدل الأرز فى المحشى بلسان العصفور كى نعيد ضبط أسعار الأرز.
كان الأستاذ جودة عبدالخالق، وما زال، سباق وسابق زمنه، يعلم ما يلوح فى الأفق عن أزمة غذائية فى منذ عام ٢٠١١، ولكنه صدم الجميع بتصريحاته فى حوار صحفى فى مايو من ٢٠١١ لليوم السابع، عندما قال إن مشروع الاكتفاء الذاتى للقمح «وهمٌ كبيرٌ». وأنا أضيف صوتى لصوته اليوم، زاعما أن مشروع الاكتفاء الذاتى للقمح اليوم أمر مستحيل، ليس لأنى من المشككين فى قدرة الدولة فى تحقيق تلك المعجزة، بل لأننى أعلم أن هذا المشروع لا يصب فى الصالح العام.
لست ممن يقفون ضد الحكومة فى سعيها لتحقيق استقلال غذائى ومَن يخفون أجندتهم خلف ستار من نظريات اقتصادية تشرعن استيراد مصر احتياجاتها الغذائية من الخارج حسب متطلبات السوق الحرة، وإن كان للأسف هناك أصوات كثيرة تقول إن من المستحيل أن تطعم مصر شعبها اليوم، حتى وإن كانت سلة طعام البحر الأبيض فى القرن الثامن عشر، قد يقول البعض كيف للدولة اليوم أن ترفع معدل إنتاجها من القمح من نحو ٥٠٪ من ما تستهلكه إلى ٧٥٪ وليس حتى ١٠٠٪ فى ظل معدل النمو السكانى الحالى، وفى ظل أزمة المياه التى تعيشها مصر اليوم؟
لكن التاريخ يقول شيئا آخر. ربما يندهش البعض من العلم أن مصر لم تصبح دولة تستورد غذاءها، وفى مقدمة تلك المنتجات القمح، إلا بعد عام ١٩٧٤. فبعد السبعينيات تسارعت فجوة استيراد الطعام بعد برنامج الانفتاح فى الثمانينيات، عندما تغير استهلاك كل بيت مصرى وبدأ يأكل من مطاعم الوجبات السريعة التى وطأت قدميها فى مصر وصارت تقدم وجبات وساندويتشات من اللحوم، محققين أرباحا طائلة. وكما شرحت فى مقالات سابقة لى، تتعاقد هذه السلاسل مع مزارع كبيرة لإطعام مواشيها موزعة بين أقطار مصر. أما قبل عصر الانفتاح فكانت تُخصص هذه الأراضى لزراعة محاصيل غذائية مباشرة بدلا من محاصيل علفية (ذرة، برسيم، شعير، وفول صويا)، مما رفع سعر هذه المنتجات الغذائية وقلل حصة الفرد من المياه، على سبيل المثال قد يندهش القارئ من العلم أن فى عام ١٩٨٠ ارتفع استيراد مصر للذرة من ٤٦٥ طنا إلى ٩٨٤ طنا بمعدل زيادة ١١١.٦١٪ نتيجة تغيير عادات أكل المصريين وافتتاح مطاعم جديدة تقدم أكلات من اللحوم.
• • •
إذن ما هو سر طبق المحشى ورفض الأستاذ جودة عبدالخالق مشروع الاكتفاء الزراعى من القمح؟
تمثل فكرة طبق المحشى طريقة مغايرة لمعالجة أزمة مصر الغذائية عبر تغيير عادات الأكل وإدخال مأكولات وسلع غذائية مختلفة مدعمة بدلا من الاعتماد على القمح فقط، فمثلما اقترح الدكتور جودة بتغيير حشو المحشى من الأرز للسان العصفور، يمكننا أن نغير مكونات رغيف العيش من الدقيق القمحى فقط إلى دقيق القمح والذرة وتنويع مخزوننا الاستراتيجى من القمح فقط كى يشمل محاصيل أخرى مثل الأرز، والقمح، والفول، والسبانخ، و(بعض) من البرسيم للاستخدام المحلى ثم إضافتها لبطاقة التموين بدلا من الاعتماد على القمح فقط، وبناء عليه، تنويع المنتجات الغذائية المدعمة بدلا من رغيف العيش القمحى فقط، فبذلك نقلل معدل ارتفاع استهلاكنا للقمح بعد تغيير عاداتنا الغذائية. سيتمتع المواطن بقيمة غذائية أعلى إذا تم العودة لرغيف العيش القديم الذى كان يحتوى على جزء من دقيق الذرة ودقيق القمح الأسمر والأبيض، لا سيما إذا تم إدخال أنواع قمح مختلفة كاملة الحبة تتمتع بمعدل أعلى من الحديد والفيتامينات والألياف، مما قد يسمح بإنتاج رغيف عيش أكبر أو بنفس الحجم لكن بجزء أقل من دقيق القمح إذا تم استخدام دقيق الذرة.
على الصعيد الاقتصادى ستكون هذه السياسة لها مردود فى خفض عجز الميزان التجارى عبر تباطؤ معدل استيرادنا للقمح بعد توجيه المزيد من الدعم لمنتجات غذائية مختلفة التى تحتاج دقيقا أقل مثل لسان العصفور والمكرونة، لاسيما إذا مُنع تصدير البرسيم والمنتجات القمحية وأصبح القرار المؤقت بمنع تصدير المنتجات القمحية تشريعا دائما، لا يعقل أن تصدر مصر منتجات قمحية فى ظل عجز غذائى فج فقط من أجل تحقيق أرباح دولارية.
أما على الصعيد الزراعى ستستفيد مصر من قرار إنتاج رغيف العيش من دقيق الذرة والقمح عبر حفاظها على معدل النترات وخصوبة الأرض، وذلك لأن إذا تم زراعة أكثر من محصول واحد فى كل قطعة أرض لن يكون هناك ضرر من إهلاك الأرض بمحصول واحد وتباعا، لن يتم الاعتماد على سماد صناعى لتعويض معدل النترات، مما يرفع معدل الحموضة فى آبار المياه الجوفية ويقلل من حصة الفرد من المياه.
وربما توجه الحكومة للاستزراع السمكى، وتدعيم البروتين الحيوانى السمكى على بطاقة الدعم هو الحل الأمثل، بالذات إذا تم وضع ضوابط صارمة لموسم الصيد وآليات الصيد الجائر حتى لا يتم الصيد فى فترات التكاثر للأسماك، مما يحافظ على ثروتنا السمكية ويعيد مكانة سمكة السلطان المصرى التى لا مثيل لها وتباع بالشىء الفلانى لأسواق أوروبا بدلا من أسماك أقل جودة ومستوردة. كما ستنخفض أمراض القلب والكوليسترول التى تأتى نتيجة لمعدلات استهلاك اللحوم المرتفعة عبر استبدالها ببروتين نباتى من خلال تدعيم زراعة وبيع السبانخ والبروكلى، أو البروتين السمكى.
• • •
أعرف أن هذا ملف عصيب وشائك، فليس هناك شعب آخر غير الشعب المصرى يسمى رغيف الخبز بالعيش لما يمثله الخبز بلقمة العيش وحياة الإنسان المصرى. أما عن تكلفة الدعم لميزانية الدولة فقد يقول البعض كيف لى أن أتكلم عن تغيير عادات الأكل المصرية عبر إضافة منتجات قمحية جديدة على كروت الدعم وسط نقاشات حول رفع الدعم عن العيش تماما؟
بالرغم من أن اقتصاديات الدعم تستحق مقالا منفصلا، لكن هناك إجابتين على هذا السؤال. أولا يجب إدراك أن عادات الأكل المصرية تم تغييرها تماما بعد عصر الانفتاح مما يعنى أنها يمكنها أن تتغير مجددا، ثانيا أن هذه الصورة، أى استهلاك مصر القمح وتعلقنا كشعب برغيف العيش، أمر يضرنا أكثر مما ينفعنا. لن أستغرب إذا كان فى وسط برنامج زراعة القمح فى مصر بعض الخبراء الذين يعولون على هذه الصورة ويزعمون أن معدل استهلاك الفرد فى مصر من القمح من أعلى المعدلات العالمية مما يعنى، تباعا، أنه أمر لا يجوز مسه، فى حقيقة الأمر هذا ما يقوله تقرير البنك الأوروبى للإعمار والتنمية وما يصور للأسواق الأوروبية أن مصر سوق مفتوحة لكل منتجاتهم الغذائية فى نفس الوقت التى تحمى أوروبا وأمريكا زراعتها المحلية برسوم إغراق.
صحيح مصر تستطيع تحقيق برنامج اكتفاء ذاتى للقمح ولكن السؤال بأى تكلفة؟ إذا افترضنا أن تحقيقنا للاكتفاء الذاتى يقضى على حاجتنا لاستيراد القمح، هل تحقق مصر ذلك عبر الدخول فى شراكة مع كبرى شركات الزراعة التى تنتج بذور القمح عبر تقنيات هندسة وراثية؟ إذا فعلت الدولة ذلك ستكون كارثة صحية بكل المقاييس، فحتى إذا ارتفع معدل إنتاج القمح فسيكون هذا على حساب نوعية القمح المُنتج والسلالات الضارة المستنبطة وراثية، وعبر استنفاد حصة مياه مصر الجوفية وتقليل مساحة الأراضى الخصبة لزراعتها محصول واحد بصورة غير مستدامة. ليست العبرة فى تحقيق قفزات وإنجازات خرافية فى وقتٍ قصير، أو التخلى عن الخبز المدعم تماما ترشيدا للإنفاق، بل فى تحقيق مكاسب نسبية متزنة على المدى الطويل بطريقة مستديمة تضمن حصة مياه مصر الجوفية، وعدم استنفاد وتلويث آبار المياه الجوفية وخفض معدل خصوبة أراضى مصر. إذن الحل هو بداية تغيير عادات المصريين الغذائية وتدعيم رغيف عيش جديد ومنتجات قمحية متنوعة مدعمة تشمل الذرة والمكرونة وعدم تصديرها للخارج ثم التوسع فى استهلاك البروتين النباتى والسمكى، ولجمعية الطهاة المصريين دور مهم فى هذا الملف فى تعريف المصريين بأطباق شهية بهذه المحاصيل. ولكل المشككين أقول لهم اقرأوا عن صيام الأوروبيين كل أربعاء وجمعة وتاريخه كصيام سياسى لتوجيه اللحوم لأسطول البحرية (Lord Cecil’s Fast) قبل أن يكون صياما دينيا.