ملاحظات على هامش الموازنة العامة
مدحت نافع
آخر تحديث:
الثلاثاء 9 أبريل 2024 - 3:41 ص
بتوقيت القاهرة
تعرف الموازنة العامة للدولة بأنها بيان تقديرى تفصيلى معتمد يحتوى على الإيرادات العامة التى يتوقع أن تحصلها الدولة، والنفقات العامة التى يلزم إنفاقها خلال سنة مالية قادمة. والموازنة العامة بهذا المفهوم يتعدى مدلولها الرصد المجرّد لبنود المصروف والإيراد، لتتحوّل إلى أداة لوزارة المالية لتحقيق الأهداف الاقتصادية والاجتماعية التى يتطلع إليها المواطنون. إذ تعرض الخطط والبرامج التى أعدتها الوزارة استجابة للتحديات الراهنة، وتمهيدا للطريق أمام تحقيق مستقبل أفضل، وذلك من خلال تعظيم الإيرادات، وإعادة تنظيم أولويات الإنفاق.
وتتبنى مصر تصنيفا مزدوجا أو بالأحرى مركبا للموازنة العامة، يتضمن التصنيف الاقتصادى، الذى يشتمل على بنود الإنفاق والإيراد، والتصنيف الوظيفى، الذى يعنى بالبرامج والمشروعات المتعلقة باحتياجات المواطنين؛ مثل برامج الرعاية الصحية، والتعليم وما شابه.. فضلا عن التصنيف الإدارى، المعنى بجهات الموازنة المختلفة، التى تقوم بالإنفاق وتتحقق الإيرادات من خلالها.
• • •
تمر عملية إعداد وتنفيذ الموازنة العامة فى مصر - وفقا للقانون - بأربع مراحل؛ بداية من مرحلة الصياغة، مرورا بمرحلة المناقشة والإقرار، ثم الإنفاق أو التنفيذ، وانتهاء بمرحلة المراجعة. وخلال تلك المراحل تحرص الجهات المختلفة على أن تخرج الموازنة العامة والخطة المرفقة بها بصورة متماسكة، محققة لأهم الأهداف والبرامج والمبادئ. وقد استقرت أدبيات المالية العامة على أن أبرز مبادئ الموازنة العامة للدولة تتمثّل فى وحدتها وشمولها وعدم تخصيصها.
أما بالنسبة للوحدة والشمول، فليس من المقبول أن تعكس الموازنة العامة للدولة جانبا محدودا من نفقاتها وإيراداتها، بينما الجانب الأكبر يتم إدارته خارج الموازنة، ومن ثم خارج أدوات الرقابة والتدقيق والحوكمة المتعارف عليها. وإذ تخلو الموازنة العامة بصورتها الحالية (قبل صدور مشروع موازنة العام 2024-2025 من مجلس الوزراء) من موازنات الهيئات الاقتصادية وعددها 59 هيئة، فضلا عن عدد كبير من الصناديق الخاصة، فإن مبدأ الوحدة والشمول يتعرّض لعوار كبير.
وإذ تصبح الأداة المالية الأهم للدولة أصغر مما يجب أن تبدو عليه، فإن الحكومة تعجز عن تلبية طموحات المواطنين، وتحقيق أية مستهدفات للخطط متعددة الآجال؛ لأن تلك الأداة لا تعكس إلا جانبا محدودا من إيرادات الدولة ومصروفاتها (وبالأحرى لمواردها واستخداماتها وهو مفهوم أوسع).
وقد أوشك مشروع الموازنة العامة الجديد للعام المالى القادم (2024-2025) أن يُعرض على مجلس النواب، متضمنا لأول مرة الهيئات الاقتصادية (كاملة أو 40 منها فقط كمرحلة أولى.. هناك تضارب فى تصريحات المالية بهذا الشأن) وذلك بعد التعديل الأخير لقانون المالية العامة الموحّد، الذى تم بمقتضاه إدخال مفهوم «موازنة الحكومة العامة» مشتملا على الجهاز الإدارى والهيئات الاقتصادية. وإذ تراهن الحكومة المصرية على أن تحقق تلك الموازنة قدرا أكبر من الوحدة والشمول؛ إذ تبلغ المصروفات ما قيمته 6,4 تريليون جم والإيرادات 5,05 تريليون جم صعودا من 2,9 تريليون و2,1 تريليون للمصروفات والإيرادات على التوالى فى موازنة العام المالى الحالى. فإن هناك ضرورة للنظر فى بعض الملاحظات على هامش تلك الموازنة الهامة، مع الأخذ فى الاعتبار تحقيق مبدأ الوحدة والشمول والانضباط المالى، الذى هو ضرورة حتمية للموازنة القادمة - على وجه الخصوص - حتى يتسنى للسياسة المالية أن تتضافر جهودها مع السياسة النقدية للسيطرة سريعا على التضخم المنفلت.
ولأن تصريحات السيد وزير المالية بخصوص التغييرات الأخيرة فى قانون الموازنة الموحّد شابها بعض الغموض، فإنه لزم التوضيح والاستيضاح، مع التركيز على أبرز ملامح تلك التغييرات.
• • •
أولا: الموازنة الموحدة يجب أن تنشأ لأغراض اقتصادية وليس لأغراض محاسبية. والفرق هنا كبير؛ لأن الغرض المحاسبى يمكن أن يتمحور حول أسلوب جديد لعرض الموازنة العامة. كأن تعرض موازنة الجهاز الإدارى للدولة متضمنة الوزارات والهيئات الخدمية والمحليات كما هو معتاد، ثم يشتمل العرض على موازنات الهيئات الاقتصادية، على طريقة الموازنات المستقلة والمجمّعة (أسوة بالشركات القابضة والتابعة) وذلك دون الدمج الكامل والحقيقى لتلك الموازنات. وهناك أساس قوى لهذا الاعتقاد، مداره تصريحات وزارية أكدت على هذا المفهوم. ويرجّح فكرة عدم الدمج الكامل، سرعة شمول مشروع الموازنة الجديد لكافة الهيئات الاقتصادية، دون التمهّل فى عملية الدمج على مراحل كما سبق الإعلان.
المفهوم الاقتصادى لشمول الموازنة يتميز عن نظيره المحاسبى فى كونه لا يعتد بالشكل على حساب المضمون، حيث تنعدم أهمية توحيد مختلف الموازنات إن لم يترتب عليها مزيد من الحوكمة وتحسين قدرة الدولة على إدارة مواردها وضبط مصروفاتها على نحو يحقق أهدافها العليا. شبهة غلبة الغرض المحاسبى تنبع أيضا من بعض التصريحات الرسمية، التى زفّت خبر وحدة الموازنة فى سياق تحسّن نسبة الضرائب إلى إجمالى الإيرادات لتصبح 35% بدلا من 80%! علما بأن الإيرادات الجارى ضمها (محاسبيا) لا تتضمّن مصادر ضريبية، ومن غير المنطقى أن تنسب الضرائب إلى مقام مشتمل عليها. كذلك يعطى هذا الإعلان دلالة على نية المالية العامة التوسّع فى زيادة الأعباء الضريبية على المواطنين. صحيح أن وزارة المالية نفت أن تكون الزيادات الضريبية "لهذا العام" ممولة بزيادة الأعباء، وإنما بتوسيع قاعدة الممولين بضم الاقتصاد غير الرسمى، لكن ليس ثمة ضمانة ألا تغرى تلك النسب المنحازة بأية حكومة قادمة، أن تفرط فى التحصيل الضريبى من شعب منهك بالضغوط الاقتصادية والفقر، استنادا إلى بيانات ومؤشرات غير معبّرة.
• • •
ثانيا: تستهدف الموازنة الجديدة وضع سقف للدين لا يمكن تجاوزه إلا بموافقة مجلس الوزراء ورئيس الجمهورية. وفكرة تسقيف الدين هى خطوة جيدة، وتأتى متفقة مع توصيات الحوار الوطنى، الذى كانت جلساته الاقتصادية المعنية بأزمة الدين العام، شديدة الاهتمام بوضع قيود على الاستدانة. شخصيا لم أجد سقف الدين مقترحا فعّالا أثناء النقاشات، ودلّلت على مخاوفى بخصوص عدم فاعليته بنمو تيارات فى الولايات المتحدة (صاحبة التطبيق الأشهر لسقف الدين) تطالب بإلغائه، نظرا لما يترتب عليه من إغلاق محتمل للحكومة على خلفية المكايدة الحزبية. وعلى الرغم من أن القانون المصرى لا يعرف هذا الإغلاق، وإنما عند الاختلاف على السقف يتم العمل بموازنة العام السابق.. كما لا يوجد صراع حزبى شبيه بما يحدث فى الولايات المتحدة بأية صورة، لكن مسألة وضع سقف قابل للتغيير باستمرار، كنت ومازلت أراها غير عملية فى الواقع المصرى، حتى وإن فرضت كنسبة لا كرقم مطلق كما اقترح البعض.
أرى من الأفضل إعمال القاعدة الذهبية فيما يتعلّق بالدين الخارجي، والتى كان معمولا بها فى مصر حتى عام 2005، وكانت تقضى بعدم الاستدانة من الخارج إلا بغرض الاستثمار، وفى مشروعات تؤتى ثمارها بالعملة الصعبة. أما الدين الداخلى فيسهل تقييده بفرض قيود على الجهاز المصرفى، للاضطلاع بوظيفته الحقيقية كوسيط بين المدخر والمستثمر، وعدم التوسّع فى الإقراض الحكومى إلا بنسب يقيّدها المركزى لصالح الاستثمار الخاص، وبقيود تتعلق أيضا بالمعروض النقدى.
مع ذلك فقد رأت الحكومة أن تنفّذ مقترح سقف الدين، على أن تتم الموافقة على إقراره وتغييره من ممثلى السلطة التنفيذية وفى غيبة الموافقة البرلمانية أى الرقابة الشعبية! وهو أمر يفرغ هذا الالتزام «الذاتى» للحكومة من مضمونه عند أول اختبار جاد.
• • •
ثالثا: وضعت الحكومة هذا العام سقفا للاستثمارات العامة، حتى لا تتغوّل على الاستثمارات الخاصة، والتى لا تمثّل أكثر من 25% من إجمالى الاستثمارات فى الوضع الحالى، الذى يتميز بمزاحمة الاستثمار العام وتراجع محفزات الاستثمار الخاص وبدائل تمويله بصفة عامة. لكن السقف المقترح والبالغ تريليون جنيه، لم تقدّم الحكومة مبررا لتحديده! وليس ثمة دليل على أنه سيكون أقل مزاحمة للاستثمارات الخاصة، سيما وهو يتجاوز بالفعل حجم الاستثمارات العامة المنفّذة هذا العام، على الرغم من الرغبة الملحة للكبح المالى على خلفية ما سبق وصفه من انفلات للتضخم. هذا السقف من الاستثمارات العامة تقترب نسبته إلى إجمالى المصروفات من ١٦٪، وهى نسبة كبيرة بالنسبة لحكومة تعانى من أزمة كبيرة فى تدبير الموارد.
• • •
رابعا: نمو إيرادات الجهاز الإدارى للدولة فى مشروع الموازنة بنسبة ٣٦٪ مقارنة بنمو بلغ 29% فقط فى المصروفات هو أمر جيد للاستدامة المالية، وانعكس على زيادة الفائض الأولى المتوقع، لتبلغ تقديراته 3,5% صعودا من فائض هامشى لم يكن يتعدّى نصف تلك النسبة فى أحسن الأحوال. وإن كنت أكرر ضعف أهمية الفائض الأولى مع زيادة خدمة الدين فى الموازنة إلى مستويات كبيرة للغاية.
• • •
خامسا: يجب إعادة النظر فى تقدير قيمة دعم المواد البترولية بالموازنة الجديدة (١٥٤ مليار جنيه) فى ضوء تقلبات أسعار النفط ومشتقاته وأسعار الصرف، مع ضرورة التوسّع فى استخدام أدوات ناجعة للتحوّط ضد تلك التقلبات، حتى لا تمرر مختلف صدمات الأسعار إلى المستهلك (برجاء الرجوع إلى مقال الثلاثاء 26 مارس الماضى).
• • •
سادسا: يجب أن تستهدف الحكومة إعادة هيكلة الدين العام، وهو تعبير أكثر انضباطا من «استغلال نصف حصيلة الطروحات لتخفيض الدين العام» الذى ورد ببيان وزارة المالية. خاصة وأن ذلك الاستغلال (إن تم) يخل بمبدأ «عدم تخصيص الموازنة العامة» المشار إليه آنفا، والذى يعنى ببساطة أن كافة الإيرادات تجتمع فى وعاء شامل ولا تخصص إيرادات بعينها لسداد مصروفات مختارة.