معضلات الردع

قضايا إستراتيجية
قضايا إستراتيجية

آخر تحديث: الإثنين 8 مايو 2023 - 7:35 م بتوقيت القاهرة

نشر موقع Project Syndicate مقالا للكاتب جوزيف ناى، يقول فيه إنه حتى يكون الردع فعالا وناجحا، لابد أن يرتبط بالدفاع عن مصالح استراتيجية أو مصير مشترك. ولكن أحيانا تختبر الظروف المتغيرة استراتيجيات الردع، مما يستدعى الأمر البحث عن بدائل أخرى... نعرض من المقال ما يلى.
نحن نعيش فى عالم يعتمد فيه الاستقرار الجيوسياسى إلى حد كبير على الردع ولكن كيف يمكن أن نثبت فعالية ذلك الردع؟
لو نظرنا إلى الحرب الحالية فى أوروبا لوجدنا أنه ابتداء من ديسمبر 2021، حذّر الرئيس الأمريكى جو بايدن الرئيس الروسى فلاديمير بوتين بأن روسيا ستواجه عقوبات جديدة قاسية إذا قام بغزو أوكرانيا ولكن بدون جدوى، ولاحقا لذلك عندما أحبطت الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيون خطط روسيا من خلال تزويد أوكرانيا بالأسلحة، لوح بوتين بالخيار النووى. والمساعدات الغربية استمرت بدون توقف.
هل فشل الردع أم نجح؟ إن من الصعب الإجابة على هذا السؤال لأن الإجابة تتطلب تقييم ما كان سيحدث فى غياب التهديد. إن من الصعب إثبات السالب، فإذا وضعت لافتة على باب منزلى تقول «لا يسمح بدخول الفيلة» ولا توجد فيلة فى منزلى، فهل ردعتهم؟ يعتمد ذلك على احتمالية دخول الفيلة التى تجيد القراءة فى المقام الأول.
توضح حرب أوكرانيا كيف أن تقليل المخاطر ليس دائما اختيار بين خيارين، ولكنه غالبا ما يعتمد على مستوى ذلك الخيار ودرجته. ربما اعتقد بوتين والذى كان يعول على تحالف غربى هش بأن العقوبات ستفشل، لكنه امتنع حتى الآن عن ضرب خطوط الإمداد فى دول الناتو، وبينما واصل الغرب من جانبه تسليح أوكرانيا على الرغم من قعقعة بوتين النووية، إلا أنه ما يزال مترددا فى توفير أنظمة صواريخ بعيدة المدى أو طائرات حربية حديثة.
• • •
إن المصداقية ضرورية لنجاح الردع: التهديد بأقصى درجات الرد للدفاع عن مصلحة ثانوية هو عمل ينطوى على السذاجة، وهذا ينطبق بشكل خاص عندما تتعهد قوة نووية ما بتوسيع مظلتها للدفاع عن بلد بعيد.
خلال الحرب الباردة، وسعت الولايات المتحدة واتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفييتية نطاق الردع النووى ليشمل أوروبا الغربية والشرقية على التوالى. وبينما كان بعض المحللين متشككين فى أن الولايات المتحدة قد تخاطر بنيويورك للدفاع عن جيب برلين الغربية المعزول، فإن التهديد نجح وهذا يعود جزئيا إلى تمركز القوات الأمريكية هناك، وفى حين أن ما يسمى بلواء برلين كان أصغر بكثير من الحجم المطلوب للتصدى لأى غزو روسى محتمل، إلا أن وجوده ضمن بأن أى ضربة نووية على المدينة ستؤدى إلى خسائر أمريكية، (وفى الوقت نفسه لم تكن القوات الأمريكية فى أوروبا سواء كانت نووية أو تقليدية رادعا ذا مصداقية للتدخل العسكرى السوفييتى فى المجر عام 1956 أو تشيكوسلوفاكيا عام 1968).
إن هذا التاريخ وثيق الصلة بالوضع الحالى فى كوريا حيث تمتلك كوريا الشمالية أسلحة نووية بينما ما تزال كوريا الجنوبية ملزمة بمعاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية. لقد أظهر أحد استطلاعات الرأى الأخيرة بأن أكثر من 70٪ من الشعب الكورى الجنوبى يؤيد قيام بلاده بتطوير ترسانة نووية خاصة بها ولكن عوضا عن ذلك عندما التقى رئيس كوريا الجنوبية، يون سوك يول، ببايدن فى أبريل اتفقوا على أن الولايات المتحدة ستقوم بنشر غواصة مسلحة نوويا بالقرب من شبه الجزيرة الكورية وتعزيز المشاورات مع كوريا الجنوبية حول التخطيط النووى والاستراتيجى وذلك على غرار المشاركة الأمريكية مع حلفاء الناتو إبان الحرب الباردة.
إن مصداقية الردع الأمريكى الموسع فى هذه الحالة، كما هو الحال فى مثال برلين يعززها وجود 28500 جندى أمريكى فى كوريا الجنوبية. إن هناك مصيرا مشتركا يجمع البلدين وذلك لأن كوريا الشمالية لا تستطيع مهاجمة كوريا الجنوبية بدون قتل أمريكيين علما بأن القواعد الأمامية فى اليابان توفر الضمان نفسه ولهذا السبب فإن إشارات الرئيس الأمريكى السابق دونالد ترامب المتكررة حول انسحاب القوات من أماكن مثل اليابان وكوريا الجنوبية كانت مضرة للغاية.
• • •
لقد سلطت رئاسة ترامب الضوء كذلك على عدم فعالية الترهيب النووى والرشاوى. عندما اختبرت كوريا الشمالية بنجاح صاروخا باليستيا عابرا للقارات فى عام 2017، هدد ترامب بـ«نار وغضب لم يشهده العالم من قبل» ولكن بدون جدوى، ولاحقا لذلك حاول أسلوب الدبلوماسية المباشرة، فبعد لقائه بالديكتاتور الكورى الشمالى كيم يونج أون فى عام 2018 ــ وهو هدف السياسة الخارجية الذى طال انتظاره لكوريا الشمالية ــ تنبأ بشكل متهور بالزوال السريع لبرنامج الأسلحة النووية فى كوريا الشمالية. ولم يكن من المفاجأ على الإطلاق بأن كوريا الشمالية لم تنزع سلاحها، فطبقا لرؤية كيم فإن سمعته ومصير سلالة عائلته يعتمدان على الأسلحة النووية.
تُظهر حالة تايوان التى تعتبرها الصين من ضمن أراضيها كيف يمكن للظروف المتغيرة أن تختبر استراتيجيات ردع مجربة وحقيقية. عندما التقى الرئيس ريتشارد نيكسون والرئيس ماو تسى تونج فى عام 1972 لإعادة العلاقات بين الولايات المتحدة والصين لم يكن هناك أى توافق على الإطلاق بشأن وضع تايوان، وفى نهاية المطاف صمم الجانبان صيغة لتأجيل الأمر: ستعترف الولايات المتحدة بـ«صين واحدة» وهى جمهورية الصين الشعبية فى البر الرئيسى للصين ولكنها ستعترف فقط بأن الناس على جانبى مضيق تايوان هم من الشعب الصينى. لقد قدمت الولايات المتحدة أسلحة لتايوان وفقا لقانون العلاقات مع تايوان لكنها لم تعترف بها كدولة ذات سيادة.
لسنوات عديدة رفضت الولايات المتحدة القول ما إذا كانت ستدافع عن تايوان. عندما زرت بكين كمسئول فى البنتاجون فى إدارة كلينتون سأل مضيفى ما إذا كان بلدانا سيخوضان حربا على تايوان، أجبته بأنه لا يمكن لأحد أن يعرف وأشرت أنه على الرغم من أن وزير الخارجية، دين أتشيسون، فشل فى وضع كوريا الجنوبية ضمن محيط دفاع أمريكا فى خطابه فى 12 يناير 1950، إلا أن الولايات المتحدة الأمريكية دخلت الحرب الكورية بعد ستة أشهر فقط من ذلك الخطاب. لقد استخدمت ما أسماه منظّر الردع توماس شيلينج «التهديد الذى يترك شيئا للصدفة» من أجل تحذير الصينيين من مغبة اختبارنا.
ما يسميه البعض سياسة «الغموض الاستراتيجى» قد يوصف بشكل أفضل بأنه «ردع مزدوج»، وهى سياسة مصممة ليس فقط لمنع الصين من استخدام القوة ضد الجزيرة ولكن أيضا لثنى تايوان عن إعلان الاستقلال بحكم القانون. يشعر بعض المحللين الآن بالقلق من أن هذه الاستراتيجية آخذة فى التآكل مع تنامى القوة العسكرية للصين وزيادة أعداد المشرعين الأمريكيين الذين يقومون بزيارة تايوان، وفى أربع مناسبات منفصلة، صرح بايدن بأن الولايات المتحدة ستدافع عن تايوان ولكن سرعان ما يقوم البيت الأبيض لاحقا لكل تصريح من تلك التصريحات بإصدار بيان يؤكد التزامه فيه بسياسة «الصين الواحدة». فى هذا السياق، فإن الالتزام بمسار يتجنب إظهار الضعف أو إثارة التصعيد سيكون حاسما لتجنب اندلاع حرب شاملة.
• • •
يذكرنا التاريخ بأن تقييم نجاح عنصر الردع يمكن أن يكون صعبا. إن هناك بعض العوامل مثل المصداقية والتى تعتبر حاسمة لتحقيق النتائج المرجوة، ولكن مع استمرار تطور معضلات الردع وزيادتها، فإن دراسة حدود الاستراتيجية لا تقل أهمية عن إيجاد نهج ناجح.

النص الأصلي

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved