دعم عينى أم نقدى للسلع الغذائية؟!
إبراهيم عوض
آخر تحديث:
السبت 8 يونيو 2024 - 7:05 م
بتوقيت القاهرة
فى أعقاب رفع سعر الخبز المدعوم بنسبة ثلاثمائة فى المائة، من خمسة قروش إلى عشرين قرشا، أُعلِنَ عن أن الدولة تنظر فى تحويل الدعم الذى توفره من موازنتها العامة للسلع الغذائية من الدعم العينى إلى الدعم النقدى. هذا الإعلان أثار النقاشات بشأن طرائق تطبيقه ونتائجه على تلبية طلب المواطنين على الغذاء.
• • •
الدعم موجود حتى يتمكن المواطنون والمواطنات من استهلاك احتياجاتهم من الغذاء، بعبارة أخرى لكى يحصلوا على السلع الحرارية الضرورية، وإن لم تكن الكافية، ليحيوا حياة صحية ولينشطوا اقتصاديا فيشتركوا فى قوة العمل ويساهموا فى إنتاج الدخل والثروة. المواطنون مستهلكون للسلع والخدمات وهم العاملون اليدويون والذهنيون المنتجون أيضا لما ينتج منها محليا. الدعم صار ضروريا وارتفع بشكل ملموس عندما تحول الاقتصاد المصرى إلى آليات السوق، وإن لم يكن تحولا كاملا، اعتبارا من منتصف السبعينيات من القرن الماضى، حتى أنه وصل إلى 14 فى المائة من المصروفات العامة فى ميزانية السنة المالية 1981-1980، فيما لم يتعدّ 0.2 فى المائة من هذه المصروفات فى 1970-1971. انخفاض النسبة المخصصة للدعم عند مطلع السبعينيات خادع إذا أُخِذَ بدون تحليل له. المقارنة غير واردة بين هيكل الإيرادات العامة والمصروفات العامة فى اقتصاد موجه وفى اقتصاد السوق. انخفاض النسبة فى مطلع السبعينيات هو نتيجة للتسعير الجبرى الذى تحمل المنتجون فيه تكلفة الحفاظ على أسعار فى متناول المستهلكين من مجموعات الدخل المختلفة. كان هذا اختيار الدولة. بدون التعرض لأسباب هذا الاختيار ونتائجه، ولا لملابسات التحول عنه، فإن اعتماد اقتصاد السوق منهجا فرض الدعم فرضا. الطبيعى هو أن هذا الدعم كان مفروضا بشكل مؤقت وحتى تنتفى الحاجة إليه بنمو الاقتصاد وتوزيع ثماره، وبرفع مستوى الأجور والدخول، باختصار وبرفع مستوى المعيشة، وهو ما لم يحدث فاستمر الدعم موجودا.
• • •
من وراء البحث فى الانتقال من الدعم العينى إلى الدعم النقدى تبغى الدولة ببساطة تخفيض نسبة العجز فى موازنتها العامة. العجز الكلى المقدر فى السنة المالية 2024-2025 يصل إلى 1,2 تريليون جنيه تمثل 7,3 فى المائة من الناتج المحلى الإجمالى، ويبدو أن الدولة تريد أن تصل به إلى أدنى من ذلك فى السنوات القادمة. المنطق الذى تعتمده الدولة هو أن الدعم العينى يستفيد منه من لا يستحقونه، بينما سيتوجه الدعم النقدى لأولئك الذين يستحقونه وحدهم وبالتالى سيمكن تخفيض حجم الموارد التى تخصص له. تخفيض الدعم هو سبيل من سبل تقليص العجز فى الموازنة العامة، يوازيه تخفيض المصروفات فى أبواب أخرى، ويضاف إليه زيادة الإيرادات العامة برفع أسعار الرسوم على العديد من الخدمات أو بفرض الجديد منها.
العجز الكلى فى الموازنة العامة المراد تقليصه يرجع أساسا إلى ارتفاع المصروفات على خدمة الدين العام المحلى والخارجى والتى بلغت 47 فى المائة من إجمالى المصروفات العامة فى موازنة 2024-2025. إذا ما أضيفت إلى خدمة الدين أجور العاملين فى الحكومة، وهى 575 مليار جنيه تمثل 14,9 فى المائة من المصروفات العامة، يتضح ضيق الحيز المالى المتوفر للحكومة للإنفاق على تنفيذ السياسات العامة التى ترسمها. وإن لم يكن هذا موضوعنا، رغم أهميته، وجب القول بأن تقليص عجز الموازنة بل والقضاء عليه هدف مستحسن غير أن استحسانه ليس مطلقا. العجز المؤدى للاقتراض لتنشيط الاقتصاد ورفع معدل النمو وتحقيق التنمية مؤشرٌ على صحة الاقتصاد ومتانته طالما استطاع هذا الاقتصاد أن يولّدَ الموارد الذاتية الضرورية لخدمة مديونيته المترتبة على الاقتراض. المشكلة لدينا أننا استدنا وخصصنا القروض لأغراض لا تولد موارد بشكل مباشر ولا غير مباشر، مما يضطرنا إلى مزيد من الاقتراض لخدمة الدين.
يلاحظ أن الموارد المخصصة لدعم السلع الغذائية انخفضت نسبتها فى المصروفات العامة فى التسعينيات من القرن الماضى وفى العقد الأول من الحالى حيث سجلت 5,6 فى المائة فى سنة 1996-1997 و6,1 فى المائة فى سنة 2008-2009. الانخفاض فى نسبة الدعم متواصل. الموارد المخصصة له والبالغة 134,1 مليار جنيه فى موازنة 2024-2025 لا تمثل إلا 3,5 فى المائة من المصروفات العامة و1,2 فى المائة من الناتج المحلى الإجمالى. هاتان نسبتان متواضعتان للغاية. ما لا يقل أهمية هو مسئولية دعم السلع الغذائية عن العجز الكلى فى الموازنة العامة. إن تجاوزنا واعتبرنا أنه مسئول بنفس قدر مسئولية غيره من أوجه الإنفاق الأقل ضرورة أو التى يمكن أن تنتظر أياما اقتصادية أفضل، تكون نسبة مسئوليته هى نفس نسبته فى المصروفات العامة، ويصبح دعم السلع الغذائية مسئولا عن 42 مليار جنيه من العجز الكلى تساوى 1,1 فى المائة من المصروفات العامة و0,3 فى المائة من الناتج المحلى الإجمالى. التواضع مضاعف إن حسبنا نصيب الدعم فى العجز الكلى فى الموازنة. هدف تحويل الدعم إلى دعم نقدى بغية تخفيضه، وتواضع ما يمكن أن يتحقق من وراء هذا التخفيض، يثيران أربع مسائل جديرة بالمناقشة قبل أن يتخذ قرار التحويل والتخفيض المقترن به.
المسألة الأولى هى أثر التخفيض على تلبية الاحتياجات الغذائية للمواطنين. السلع المدعومة عينيا مثل الخبز يمكن استخدامها لعلاج سوء التغذية لدى الأطفال مثلا بإضافة عناصر ضرورية لحسن التغذية إليه. ثم إن مزيدا من سوء التغذية الناتج عن تخفيض الدعم يمكن أن يؤدى إلى تدهور إضافى فى الصحة العامة الجسمانية والنفسية يترتب عليه بدوره مزيد من الإنفاق على العلاج والرعاية الاجتماعية. تقتصد باليد اليمنى لترتفع التكلفة على اليد اليسرى!
المسألة الثانية هى أثر الدعم النقدى على التضخم. ثمة من يقول أن الدعم النقدى ينشِّط الاقتصاد بفعل الأثر المضاعف لإنفاق النقود. غير أن الأثر المضاعف بدون مزيد من الإنتاج المحلى للسلع والخدمات لا يؤدى إلا إلى التضخم خاصة وأن الاستيراد أصبح دونه انخفاض سعر صرف الجنيه المصرى الذى أدّى إلى ارتفاع هائل فى أسعار الواردات. نصل بذلك إلى المسألة الثالثة وهى تحديد مستوى الدعم النقدى ومراجعته وإدارته. ليست لدينا آليات لتحديد مستوى دعم السلع الغذائية يشترك فيها المستهلكون. وبافتراض أن يترك تحديد هذا المستوى للدولة، فما هى توقيتات مراجعته، وما هى البيانات الضرورية لإجرائها، وما هو ما يضمن إجراءها وتنفيذ ما تنتهى إليه بافتراض توفر البيانات الضرورية؟ ومن سيساند مراجعة مستوى الدعم النقدى ورفعه إن كان المشاركون فى تحديد مستواه غير مستفيدين به مطلقا؟ ثم ما هى تكلفة إدارة الدعم النقدى التى يستدعيها تحديد المستفيدين به، والإضافة إليهم والحذف من بينهم بشكل مستمر، ثم إيصال الدعم إليهم؟ التضخم ومجرد التباطؤ فى مراجعة مستوى الدعم النقدى من شأنهما تآكل القوة الشرائية للمواطنين مع ما يرتبه ذلك من ارتفاع فى معدل الفقر ومن تدهور فى الصحة الجسمانية والنفسية إلى آخر المذكور أعلاه.
التماسك الاجتماعى هو المسألة الرابعة حيث يهدده انخفاض القوة الشرائية للمواطنين وارتفاع معدل الفقر بينهم. إصابة التماسك الاجتماعى نتيجتها تهديد السلم الاجتماعى. هل أخذ هذا التهديد أو احتماله فى الاعتبار عند الإعلان عن بحث التحول إلى الدعم النقدى، خاصة وأنه صدر أيضا بعد أيام من رفع سعر الأدوية فيما بين 25 و50 فى المائة، ومن الإعلان عن تأجير المستشفيات العامة إلى مشغلين خواص وهو ما سيرفع من تكلفة الخدمة الصحية فيعجز قطاع هام من المواطنين عن الوصول إليها؟ على ضوء ما سبق عن تواضع كل من قيمة الدعم العينى ونصيبه فى العجز الكلى فى الموازنة، هل يستحق مزيد من خفض دعم السلع الغذائية تعريض السلم الاجتماعى للخطر؟ تزداد قيمة هذا التساؤل أهميةً عندما ندرك أن دراسة صدرت سنة 2013 قدرت حجم الهدر من دعم السلع الغذائية بمجرد 20 فى المائة من قيمته، أى إن التخفيض إن حدث لن يتعدى العشرين فى المائة من قيمة الدعم المتواضعة أصلاً. الاحتمال كبير أن تتعدى تكلفة إدارة الدعم النقدى قيمة هذا التخفيض.
• • •
بدلا من اصطناع مشكلة والبحث لها عن حل هو هامشى تماما فى قيمته، الأجدى هو توجيه النقاش العام لينصب على السياسات الضرورية لزيادة إنتاج السلع والخدمات، وعلى تحديد السلع والخدمات التى تستفيد بهذه السياسات، على أن يشارك فى هذه العملية ممثلو أصحاب العمل والمواطنين، باعتبارهم المستهلكين والعاملين، المستقلين والفاعلين. هذا هو السبيل إلى زيادة الإنتاج، وزيادة الإنتاج هى الطريق إلى سد العجز فى الموازنة العامة، وإلى نمو الناتج المحلى الإجمالى، وإلى التنمية.