مستقبل المركبات الكهربائية
مدحت نافع
آخر تحديث:
الإثنين 8 يوليه 2019 - 9:10 م
بتوقيت القاهرة
فى الوقت الذى يتعالى فيه اللغط بخصوص مستقبل أسعار وقود السيارات فى مصر فى ظل تحرير أسعار الوقود، وأثره على اقتصاديات العديد من مجالات النشاط الاقتصادى، هناك من يحلّق بخياله إلى آفاق جديدة لمستقبل المركبات التى تعمل بالوقود الأحفورى فى العالم، ويحلل الإحصاءات التى تخبرنا أنه بحلول عام 2040 سوف تزيد نسبة مبيعات المركبات العاملة بالكهرباءElectric Vehicle (EV) فى مختلف أسواق العالم عن 65 مليون مركبة سنويا بما يعادل 50% من حجم السوق العالمية حينئذ. التفاصيل الفنية والاقتصادية فى هذا الموضوع كثيرة، لكن المؤكد أن السوق الأوروبية تنفتح بشكل كبير على السيارات الكهربائية والهجين (التى تستخدم الوقود التقليدى إلى جانب الكهرباء) بما يغير من حسابات مصنعى السيارات حول العالم لتأسيس منصات مزدوجة لتصنيع وتجميع المركبات الكهربائية لكثير من الموديلات التى تطلبها أسواق أوروبا من كل من المحركات التقليدية وتلك التى تعمل بالكهرباء النظيفة، والجدل بخصوص كونها نظيفة سوف نأتى له لاحقا فى هذا المقال.
الصين أيضا وهى السوق الأكبر حجما للسيارات صناعة واستهلاكا، تنمو فيها صناعة السيارات الكهربائية بشكل متسارع يفوق أى دولة أخرى. الخطة بدأت بنظام لتحفيز الصناعة وبالتجربة فى عدد محدود من المدن حتى يتسنى توفير البنية الأساسية المطلوبة لشحن بطاريات المركبات الكهربائية، واختبار سيارات الركوب فى ظل عوامل مناخية مختلفة. الحوافز تضمنت سداد الحكومة لنصف ثمن السيارة، وإعفاءها من القرعة التى يدخلها ملّاك السيارات بغرض أسبقية الترخيص (نظرا لفرض قيود على حجم التراخيص السنوية للسيارات)، إلى غير ذلك من مزايا التحفيز المدركة بذكاء أن نجاح التجربة يبدأ من توفير قوى الطلب ولا شىء آخر.
حتى الولايات المتحدة التى لم تنتشر فيها السيارات الكهربائية على نحو مماثل لأوروبا والصين فقد بلغت معدلات نمو مبيعات هذا النوع من السيارات نسبا قياسية خلال السنوات الأخيرة، خاصة فى عدد من الولايات مثل كاليفورنيا والتى ناهزت الحصة السوقية للمركبات الكهربائية فيها 8% وواشنطن التى زادت فيها الحصة ذاتها عن 4% عن العام 2018 بمعدلات نمو كبيرة بلغت 100% فى حالة ولاية تكساس الأمريكية والتى بلغت الحصة السوقية لمركباتها الكهربائية 0.78% عن العام 2018 وفقا لإحصاءاتAlliance of Auto Manufacturers.
***
حينما تنمو صناعة ما بتكنولوجيا جديدة فإن معيار تفوقها وانتشارها يقوم على عاملين أساسيين: ما توفّره الدولة من دعم وحوافز لتلك الصناعة، وقدرة الصناعة الجديدة على التطوّر السريع للتغلّب على العيوب والعقبات المرتبطة بها. أما عن العنصر الأول، فجميع الأسواق التى تزدهر بها مبيعات المركبات الكهربائية سواءً المستوردة أو المصنّعة والمجمّعة محليا، تتبنّى نظاما متكاملا لدعم مستهلكى ومصنعى هذا النوع من المركبات لسيارات الركوب وأتوبيسات النقل الجماعى وسيارات النقل التجارية بدرجات متفاوتة. حكمة ذلك أن مرحلة الانطلاق للصناعة هى الأصعب وهى التى تحتاج دائما إلى دفعة، قد تكمن فى رفع الحواجز الجمركية على المكونات المستوردة، وتوفير عقود شراء طويلة الأجل لمنتجات المصنّع المحلى. وقد تتطوّر للمساهمة المباشرة فى ثمن السيارة يتلقاها المشترى أو المصنّع بشكل مباشر أو حتى المستورد للسيارة تامة الصنع، نظرا لأن اختبار السيارة فى الأسواق يظل ضروريا قبل إقدام رجال الصناعة على خوض تجربة التصنيع أو التجميع بنوعيه الشهيرين (ما يعرف بـSKD أو CKD). كذلك يجب أن تعنى الحكومات بخلق بيئة متكاملة صالحة لانتشار التكنولوجيا الجديدة. محطات الشحن السريع، وآليات استبدال البطاريات التى تتيحها بعض الشركات وغيرها من مقوّمات صناعة المكونات تحتاج بدورها إلى دعم الدولة، وعدم استنزاف الوقت والجهد فى التراخيص والموافقات البيروقراطية.
من ناحية أخرى يتوقف نجاح التجربة كما سبق أن ذكرنا على قدرة الصناعة الجديدة على تلافى العيوب والعقبات التى تعترض انتشارها وإقبال المستهلك عليها. أبرز العيوب التى تعترض انتشار السيارات الكهربائية (إلى جانب ارتفاع تكلفة إنتاجها وتشغيلها نسبيا) يتمثّل فى النمط المعتاد لراكب السيارة لتزويد سيارته بالوقود كلما أوشك خزان الوقود على النفاد، ربما كل أسبوع، والذى يختلف عن نمط شحن بطارية السيارة، القائم على فكرة وضعها فى القابس طوال الليل (وهى ذات الفترة التى لا تمثّل الذروة بالنسبة لاستهلاك الكهرباء على مستوى الدولة بما لا يضغط على شبكات التوزيع). فى المدن التى يعجز مالك السيارة عن صفّها فى جراجات مغلقة وأماكن مخصصة لتركها ساعات طويلة لا تقل عن ثمانى ساعات يوميا يكون البحث عن قابس الشحن أمرا معوّقا لاقتناء السيارة الكهربائية، كذلك فإن حلول الشحن السريع مازالت تكتنفها عيوب تقصير عمر البطارية، وهى المكوّن الأهم والأغلى ثمنا فى السيارات الكهربائية، وإن كان يتجه إلى الانخفاض السعرّى فى السنوات الأخيرة بمعدلات منتظمة. كل ذلك حدا ببعض منتجى المركبات الكهربائية إلى البحث عن حلول لتبديل البطاريات فى محطات متخصصة عوضا عن شحنها، توفيرا لوقت الشحن الآمن والذى لا يقل عن خمس ساعات... هذا يعيدنا إلى عيب آخر سبق أن نوهّنا له فى أول المقال، وهو مدى اعتبار تكنولوجيا السيارات الكهربائية «نظيفة» بيئيا خاصة مع صعوبة التخلّص من البطاريات القديمة وعدم قابليتها للتدوير إلا بنسب لم تزد عن 5% فى أحسن الأحوال خلال الأعوام الخمسة الأخيرة. كذلك مصدر إنتاج الطاقة الكهربائية المستخدمة كوقود للسيارة يظل عاملا مهما لتحديد مدى صداقة هذا المنتج الجديد للبيئة. فالدول التى مازالت تنتج الكهرباء باستخدام كثيف للمشتقات البترولية تنقل مهمة تلويث البيئة من محرّك السيارة إلى محطة إنتاج الكهرباء لا أكثر، بما يجعل ضرورة الاعتماد على المصادر المستدامة والمتجددة لإنتاج الكهرباء أمرا حيويا، خاصة مساقط المياه، كون الطاقة الشمسية وطاقة الرياح مازالت فى طور النمو، ولا تستحوذ حتى اليوم على نسب تذكر من إنتاج شبكتنا فى مصر على سبيل المثال.
***
النظام والبنية الأساسية المواتية ركنان أصيلان فى نمو إنتاج واستهلاك هذا النوع من السيارات، ما يجعل دولة متقدمة (صناعيا وتكنولوجيا) مثل الهند تعانى من ضعف سوق المركبات الكهربائية حتى الآن، ويعكف خبراؤها على وضع التصورات المختلفة للحاق بدولة مثل الصين فى هذا المجال. السوق الصينية يسمح اتساعها بتجربة أى شىء وكل شىء، حصة سوقية صغيرة من أى مقاطعة صينية تكفى المصنّعين لخوض تجربة إنتاج أى منتج جديد، طالما أن الدولة تهتم به وتدعمه. أما دول الأسواق الصغيرة فتجد صعوبة فائقة فى توطين أى منتج جديد، خاصة إذا كان ذلك المنتج يقوم على تكنولوجيا ناشئة فى مرحلة التطور. النظام الذى يخطط ويضبط خط سير المركبة، ويأخذ فى الحسبان وقت وضعها فى القابس خلال الرحلة، أو طوال الليل وفى أماكن صفّ السيارات ومحطات الشحن الكهربائية، هو الذى يضمن عدم تزاحم المركبات أمام الشواحن وضياع الوقت وهدر الموارد، وهو الذى يقوم على نظام بيئى متكامل integrated ecosystem لصيانة البطاريات وتدويرها ونقل مخاطر التلف والاستهلاك إلى شركات متخصصة، ونقل أعباء التأمين إلى شركات أخرى.. هو نظام يتطلب تأهيل وتدريب سائق المركبة الكهربائية والذى يختلف عن السائق التقليدى، ويتطلّب استعدادا نفسيا واجتماعيا للطفرة الجديدة التى لا تقل فى ثوريتها عن استحداث سيارات الركوب ذات المحركات خلفا للعربات التى كانت تجرّها الأحصنة.
رئيس مجلس إدارة الشركة القابضة للصناعات المعدنية