ملاحظات على بعض جوانب دعوى بطلان عقد مدينتى

إبراهيم يسري
إبراهيم يسري

آخر تحديث: الأحد 8 أغسطس 2010 - 10:06 ص بتوقيت القاهرة

بعد الحكم بإحالة الدعوى لدائرة الموضوع بالمحكمة الإدارية العليا، دخلت الدعوى مرحلة مهمة واقتربت من حكم ينهى الجدل ويأخذ للشعب حقه المسلوب.

ولابد أن نشير فى البداية بكل فخر واعتزاز إلى صدور ثلاث وثائق قضائية عظيمة ومحقة وتاريخية من هيئة مفوضى الدولة بمحكمة القضاء الإدارى وحكم المحكمة ثم من هيئة مفوضى الدولة بالمحكمة الإدارية العليا تقطع ببطلان عقد مدينتى، ومن المستبعد فى نظرنا أن تنحو دائرة الموضوع منحى مخالفا. كما أننا نترحم على روح المستشار الشريف ممدوح السقا ــ الذى هاجمه دفاع الطاعنين ووجهوا له اتهامات ظالمة ــ والذى شارك فى إصدار الحكم، والذى أحدث رحيله نوعا من البلبلة وأملنا ألا يبتعد الحادث الأليم عن كونه من حوادث القضاء والقدر، وقد أدينا واجب العزاء فى ذات اليوم لقضاة مجلس الدولة فى كتاب لرئيس المجلس الموقر.

ومن وجهة نظرنا، فلا يخالجنا أدنى شك فى أن حكم محكمة القضاء الإدارى المطعون عليه يأتى فى مصاف بل فى مقدمة الأحكام التاريخية العظيمة التى أصدرها مجلس الدولة فى استقلال مهيب عن نفوذ وسطوة أهل الثروة ودوائر السلطة المتحالفة معها، فى تجرد موضوعى لا يحسب حسابا لنفوذ ولا يخشى سلطة، وذلك التزاما بإعمال وتطبيق مبدأ المشروعية وحفاظا على المصلحة العامة.

ويوجه الحكم ضربة قوية وقاضية ضد سلسلة إهدار المال العام والفساد التى انتشرت فى السنوات الأخيرة سواء ببيع أراضى الدولة لذوى النفوذ والسلطان بأثمان بخسة وفكاهية وفى المقابل يجد الأثرياء الجدد عشرات بل مئات المليارات من أموال الشعب من أراضى وثروات طبيعية كالبترول والغاز وبمختلف الوسائل فى سنوات قليلة دفعت بهم رفاهيتهم إلى التعالى عن طبقاتهم السابقة، وتبذير مكاسبهم فى وجوه الترفيه والاستحواذ بدلا من استثمارها فى صالح الشعب.

غير أننا نلاحظ أن دفاع أصحاب العقد قد نحى دونما سند قانونى صحيح إلى الخلط غير المبرر بين أحكام القانون المدنى الذى ينظم العلاقات العقدية بين الأفراد فالعقد وفقا لأحكام القانون المدنى لا يمكن أن يكون عقد بيع لأن البيع لابد أن يقابله ثمن من النقود، كما أنه حالة فريدة يبيع فيها من لا يملك الى من لا يستحق، كذلك فمن الثابت أن للعقود الإدارية التى تبرمها جهة إدارية مع الأفراد أو أشخاص القانون الخاص لها ذاتيتها الخاصة ومجالاتها المختلفة وهى كلها خاضعة للقاضى الإدارى الذى يملك الدعوى تكييفا وتوصيفا وحكما، فالعقد يتمثل فىما يشبه فسيفساء قانونية غريبة عن القانون والمنطق.

وقد دفعت فداحة الصفقة رئيس الجمهورية بإصدار توجيهات وقرارات فى الأيام الأخيرة (تبلورت فى القرار الجمهورى رقم 221 لسنة 2010) بمنع البيع والاكتفاء بحق الانتفاع فقط، لمنع وتصحيح هذه الصفقات المشبوهة، والتى صدر بناء عليها قرارات وزارية بمنع التصرف بالبيع فى أراضى الدولة وأن يتم ذلك بمنح حق الانتفاع فقط ولمدة محددة من أجل استصلاح الأراضى و تعميرها لمنع مثل تلك الصفقات المريبة التى تصب أموال الدولة بالمليارات فى جيوب المتربحين ولا يصيب الشعب منها إلا الفتات.

ونوافق على ما جاء فى دفاع الشركة من أن هذا الحكم يعتبر كارثة، ولكنها كارثة للفساد والمتربحين الذين مضوا دون وجل فى استلاب أموال الشعب بلا رحمة ولا هوادة ولا حق لبناء مساكن وفيلات فى جنات حالمة بدلا من بناء مساكن للشباب الذى يحتاج بشدة لشقق تمكنه من الزواج وتكوين أسرة. وإذا كانت هناك سوابق لهذا الاستلاب البشع، فإن إهدار السابق لا يبرر إهدار اللاحق،

وعلى النقيض من طروحات دفاع الطاعنين، فقد فتح هذا الحكم التاريخى باب الأمل فى أن يستعيد الشعب ثرواته السليبة بفضل استقلال وعدل قضائنا الشامخ الذى يعتبر حصننا الأخير ضد الفساد والظلم وإهدار المال العام، ولعل الكارثة التى تحدث عنها دفاع الشركة تتمثل فى حالة الخوف من إبطال صفقات مماثلة مثل صفقة جزيرة آمون التى شارك فيها وزيران أحدهما ترك منصبه الوزارى.

والأمر الذى تعذر علينا فهمه أو تبريره هو تكشف بواعث وأسباب طعن هيئة المجتمعات العمرانية الجديدة على الحكم الذى صدر لصالحها والذى يعيد إليها وإلى الدولة مليارات الجنيهات، وربما لم تشهد ساحات القضاء متقاضيا يرفض استعادة حقوقه وتعويض خسائره، فالحكم فى حقيقته صادر لمصلحة الهيئة أكثر مما يستجيب لطلبات المدعين فى الدعوى الأصلية، بل نكاد نكيف الأمر قانونا أنه ليس للهيئة مصلحة فى الدعوى الأصلية ولا فى الطعن على الحكم الذى صدر لصالحها، وإذا كان المدعيان قد اختصما الهيئة فإن الغرض من ذلك إعطاؤها الحق فى ملاحقة الشركة وتنفيذ الحكم ولكنهما لم يهدفا إلى اعتبار الهيئة خصما كاملا فى الدعوى، بل الأحرى بها أن تنضم إليهما.

وفى عتاب على دفاع الشركة الموقر أن يستصغر من شأن المطعون ضدهما، وهما من الناشطين المعروفين فى قضايا محاربة إهدار المال العام وآخرها تدخلهما ودعمهما لقضية بيع الغاز لإسرائيل، بوصفهما بأنهما من آحاد الناس.. ولا أى منهما محتسبا فى المجتمع، وهو قول يشتم منه نوايا التقليل من شأنهما وهما مواطنان مصريان يتساويان مع الجميع فى حقوقهما وواجباتهما، ومن باب العتاب أيضا أن يلجأ دفاع الشركة إلى مهاجمة الحكم وهذا من حقه، ولكن الهجوم فى نظرنا خرج عن إطار الموضوعية، بل وملف الدعوى حيث قام باستنكار ما ينبه إليه الحكم إلى الفساد كخطر جسيم يستشرى فى الأمة، فقد صدر التنبيه جريا على العشرات بل المئات من الأحكام فى المواد الإدارية والجنائية بل والمدنية التى تستشرف أوجه النقص فى القانون وتطبيقه وتنبه إلى مسائل اجتماعية وقانونية عامة بقصد حماية المجتمع وتحقيق المساواة والعدل والسلام الاجتماعى..

وبصفة عامة نلاحظ أن الجهة الإدارة والشركة يتبنيان منطقا قانونيا غريبا يخالف قواعد اساسية مستقرة لا مساس بها ولا اعتراض عليها، وعلى الأخص فى أمرين:
الأول: هو إعلاء اللوائح التنفيذية للقوانين على نصوص القانون ذاته بل والدستور أيضا، وفى ذلك ابتدع دفاع الشركة مبدأ فريدا هو أن الأحكام التى تصدرها جهة الإدارة تصدر ــ فى نظره ــ بموجب تفويض تشريعى ينسخ القانون ويسمو عليه بل يسلب سلطات البرلمان فى التشريع . والمتفق عليه أن ذلك التفويض لا يوجه إلا من البرلمان لرئيس الجمهورية.

الثانى هو تجاهل الأصول المرعية فى تفسير القوانين والنصوص، وعلى رأسها أن أحكام القانون الصادر تنسخ ما يخالفها من أحكام نصت عليها قوانين سابقة وتغافل أيضا أو إهدر النص الصريح فى قانون المزايدات عل إلغاء ما يخالفه من أحكام. وقد قدمت هيئة الدفاع الموقرة اسانيد قانونية راسخة لتصدى هذه المزاعم.
والأمل معقود على دائرة الموضوع لتصدر حكمها بحماية حقوق الشعب وثرواته.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2025 ShoroukNews. All rights reserved