السياسة الخارجية فى الدستور الجديد
ياسمين فاروق
آخر تحديث:
السبت 8 سبتمبر 2012 - 8:30 ص
بتوقيت القاهرة
إن تحركات الرئيس محمد مرسى على صعيد العلاقات الخارجية لمصر رفعت الروح المعنوية لدى المصريين والشعوب العربية على حد سواء. وإن دلت هذه التحركات على شىء فإنما تدل على أن القيادة السياسية تدرك أهمية الخارج بالنسبة للداخل أو بمعنى آخر أهمية السياسة الخارجية لدى الرأى العام. وبالتالى فإن دبلوماسية مصر فى الخارج تظل من أهم العوامل فى تدعيم أو تقويض شرعية النظام الحاكم أيا كانت توجهاته. كما ينبه الصخب الذى أحدثته الخطوات الخارجية للرئيس عن أن زمن عزلة الرأى العام عن تحركات مصر على المستوى الدولى ــ وليس فقط الإقليمى ــ قد انتهى.
بل وأصبح لدى المجتمع المدنى والمواطن المصرى ليس فقط رأيا فى دبلوماسية بلاده بل أصبحوا يمتلكون أدوات تجعلهم ضمن خريطة الفاعلين فى هذه الدبلوماسية. كما أنه لم يعد أى نظام سياسى فى مصر قادرا على أن يفصل سياسته تجاه شعبه عن سياسته تجاه القضايا الخارجية خاصة قضايا «التحرر الوطنى الجديد». فالسياسات الإقليمية الشعبوية لا يصح أن تمثل الغطاء الساتر لسياسات قمعية فى الداخل. كما لا يليق بمصر بعد الثورة أن تتجاهل الممارسات القمعية ضد الشعوب فى الخارج. يدفع ذلك بالتالى إلى الاهتمام بالسياسة الخارجية لمصر وخاصة بوضعها فى الإطار العام للنظام السياسى القادم.
•••
إن الأصل فى السياسة الخارجية هى أنها إحدى السياسات العامة للدولة وإن كانت تتمتع بوضع خاص ما بين هذه السياسات نظرا لطبيعة الفاعلين فى صنعها ونتيجة لحساسية الموضوعات والقرارات فيها. وبالرغم من ذلك، نجد دساتير العالم تحدد الإطار العام للسياسة الخارجية للدولة وتترك لقمة الهرم السياسى تحديد الأطر الضيقة لصنع وممارسة هذه السياسة بشكل يومى على أرض الواقع. وبالنظر إلى أن الدستور هو من يضع أساس العلاقة بين الداخل والخارج، أى بين النظام الحاكم والسياسة الخارجية للدولة، فإن هناك مسألتين ينبغى إمعان التفكير فيهما بالنظر إلى البنود التى تتعلق بالسياسة الخارجية فى الدستور الجديد
أولى هذه النقاط تتعلق بالمؤسسات والفاعلين فى صنع السياسة الخارجية. ففى معظم الأنظمة السياسية ــ رئاسية كانت أو برلمانية ــ تكون السياسة الخارجية من اختصاص قمة الهرم السياسى أى الرئيس أولا ثم رؤساء المؤسسات التى تختص بصناعة القرار فى السياسة الخارجية وعلى رأسها وزارة الخارجية ثانيا. ثم تدخل الأجهزة الأخرى للدولة من برلمان ووزارات متخصصة فى المراحل التالية وللممارسة مهام محددة مثل التصديق على معاهدة دولية أو تنفيذ بروتوكول معين. وتميل الممارسات على أرض الواقع إلى أن ينضم إلى هذه الدائرة الضيقة من يختار الرئيس مشاركتهم لعدة أسباب منها قربهم الأيديولوجى أو العائلى منه أو صداقتهم به أو اعتبارهم محل ثقة أو غيرها من الأسباب. وليس هذا النوع من التدخل المبنى على القرب الشخصى من الرئيس حكرا على النظم السلطوية لأنه يحدث حتى فى ظل النظم الأكثر ديمقراطية مثل فرنسا وللولايات المتحدة. ولكن المحك الفارق بين تدخل هؤلاء الأفراد فى صنع السياسة الخارجية فى النظم الديمقراطية عن غيرها هى أن دولة الدستور والقانون تجبر رئيس الدولة على إشراك المؤسسات المختصة فى صنع القرار أولا وقبل اتخاذ القرار كما أن رأيهم يتقدم على رأى مستشاريه والمقربين منه خصوصا أن الوزراء على رأس هذه المؤسسات هم من يساءلون عن السياسة الخارجية للدولة أمام البرلمان وليس مستشارى الرئيس ولا المقربين منه. ولعل الوضع الأمثل هو أن تكون دائرة صنع القرار التى تحيط بالرئيس تضم شخصيات تمثل مؤسسات الدولة بدلا من أن يكونوا مستشارين أو مساعدين فى ملفات تعد من الاختصاص الأصيل لمؤسسات أخرى. وعليه، يظل تعيين مستشارا للرئيس محمد مرسى فى الشئون الخارجية والتعاون الدولى مؤخرا موضعا للتساؤل، خصوصا أن الرئيس هو من عين وزير الخارجية دون أية قيود عليه بسبب ضغوط حزبية أو شعبية. فما الداعى إلى أن يكون لدينا فى هذه المرحلة وزير ومستشار فى «الشئون الخارجية» بشكل عام؟ فقد يحتاج الرئيس إلى مستشارين ومتخصصين فى ملفات معينة تعد من أولويات السياسة الخارجية فى المرحلة الراهنة. ومن الممكن أن يتم تعيين هؤلاء من عقر دار الخارجية المصرية التى تذخر بهم بل وممن هم مصدر فخر وتشريف لمصر بشهادة الدبلوماسيين الأجانب أنفسهم. ولكننى لا أفهم أنا وكثيرون سبب اختيار السيد عصام الحداد ليكون مستشار الرئيس فى الشئون الخارجية. ولذلك أعتبر أنه من المشروع جدا أن يسأل وزير الخارجية الحالى عن الفرق بين توصيف وظيفته بالمقارنة مع وظيفة السيد مستشار رئيس الجمهورية للشئون الخارجية خاصة وإن كانت خبرة الأول تتعدى بمراحل ومسافات بعيدة خبرة الثانى. أليس من المفترض أننا نبنى دولة المؤسسات ونضع حدا لتدخل العلاقات والولاءات الشخصية مع سياسة الدولة؟
•••
المسألة الثانية التى يفضل أن يحسمها الدستور هى مسألة الرؤية العامة للسياسة الخارجية أو مسألة مشروع الدولة فى سياستها الخارجية. فقد كانت السياسة الخارجية لمصر تحت مبارك متهمة دائما بغياب المشروع القومى أو الرؤية الشاملة التى تربط مختلف القرارات والمواقف فى إطار نظرى واحد يمثل هدف الدولة ومشروعها. ذلك أنه يفترض أن تعبر السياسة الخارجية عن رؤية الدولة للعالم ورؤيتها لمكانتها فى النظام الدولى ودورها فيه. وقد كان تبنى الدول لأيديولوجية معينة معبرا عن هذه الرؤية. ولا نطالب هنا بأن تتبنى مصر أيديولوجية معينة. ولكن نتمنى أن ينص الدستور على ثوابت للسياسة الخارجية تجعل من الصعب لأيديولوجية معينة أن تغتصب هذه الثوابت التى تجعل من السياسة الخارجية مشروعا قوميا. كما يجب الاتفاق على مبادئ السياسة الخارجية المصرية ــ وليس الناصرية ولا المباركية ولا الإخوانية ــ التى لا يمكن أن تتخطاها المواقف والأيديولوجيات المتتابعة التى سوف تحكم مصر الديمقراطية. ومن ذلك مثلا النص على أن مصر جزء من الوطن العربى أو أننا نؤمن بحق الشعوب فى تقرير مصيرها. وقد يكون من المفيد هنا أيضا التدليل بما هو جار فى هذه المسألة على أرض الواقع ونحن نكتب هذه السطور. فإن مسألة أسلمة السياسة الخارجية لمصر لها ما لها وعليها ما عليها. فمن ناحية، هى تتضمن مجموعة من المبادئ الواضحة التى تجبر من يتبناها على الالتزام بمبادئ الدين الإسلامى السامية وعلى حذو الرسول عليه الصلاة والسلام فى التعامل مع الأمم الأخرى. ولكنها من الناحية الأخرى تحمل معضلتين. أولا، إن أحكام الشريعة لها عدة تفسيرات يتطلب تنفيذها فى ظل النظام الدولى الراهن الاجتهاد فى تفسيرها. كما أن للإخوان المسلمين تفسيرهم لأحكام الدين فى السياسة بشكل يختلف تماما عن تفسيرات السلفيين أو الصوفيين أو غيرهم ممن يصفون نفسهم أيضا بالإسلاميين.
•••
ثانيا، فإن تبنى خطاب إسلامى فى السياسة الخارجية أدى فى جميع الحالات السابقة إلى تطويع الدين لخدمة مصالح الدول والحكام وليس العكس. فمثلا تستخدم كل من ايران والمملكة العربية السعودية الدين فى تفسير القرار وعكسه دون أية غضاضة. وتكون النتيجة أن يفقد الدين كمرجع قيمى مكانته ومصداقيته ليس فقط أمام الشعب وإنما أيضا أمام الأطراف الخارجية التى لن تصدق أبدا ذريعة أن اعتبارات الإسلام تفرض هذا القرار أو ذلك فى السياسة الخارجية. فإذا كانت مصر فى مرحلة إعادة بنائها لا تمتلك من القوة ما تستطيع به الالتزام الكامل بأحكام ومبادئ الإسلام، فلنكتف بالدفاع عن القرارات بأنها من باب تحقيق مصلحة مصر وحسب. أضف ذلك إلى أن الدين الإسلامى الحنيف على سموه لا يعبر عن هوية مصر بما فيها من تنوع يفرضه التاريخ والواقع. وأخيرا فإن تبنى الخطاب الإسلامى فى السياسة الخارجية والداخلية يقدم مصر للعالم كنموذج لدولة وسياسة إسلامية ويدخلها فى منافسة على أرضية إسلامية مع قوى إقليمية ودولية فى حين أن قوة مصر الإقليمية كانت ودائما تنبع من تقديمها لنموذج ريادى على أرضية تنفرد بها تشمل الإسلام بالإضافة إلى مكونات أخرى.
قد يكون من الصعب عمليا إدماج كل هذه العناصر فى مواد الدستور القادم. ولكن نتمنى أن تمثل مسألتا صنع القرار والمشروع القومى لمصر فى الخارج خلفية لمن يقومون بتصميم الإطار العام للسياسة الخارجية لمصر فى هذه المرحلة الدقيقة التى تمر بها البلاد.