فرصة تاريخية لفرنسا...
سمير العيطة
آخر تحديث:
الأحد 8 سبتمبر 2019 - 8:55 م
بتوقيت القاهرة
أوروبا غارقةٌ فى مشاكلها السياسية الداخلية. ألمانيا التى تشارك فرنسا ريادة الاتحاد الأوروبى منشغلة بخلافة رئيسة الوزراء أنجيلا ميركيل وبالبحث عن نموذج اقتصادى جديد لمواجهة التقلبات الحالية. وبريطانيا تعيش حالة من التخبط بخصوص ملف الخروج من الاتحاد الأوروبى (البريكسيت) وتعانى من أزمة فى النظام السياسى عميقة وشديدة أخذها إليها هذا الملف. لكن غياب قيادة سياسية واضحة للبلاد لم يمنعها فى حينه من اتخاذ قرار حجز ناقلة النفط الإيرانية ثم الإفراج عنها. وإيطاليا تشهد هى الأخرى أزمة حكم وتقلبات مفاجئة. والأمر نفسه بالنسبة لإسبانيا.
وحدها فرنسا تشهد استقرارا فى الحكم والإدارة مع انهيار الأحزاب السياسية التقليدية واستفراد الرئيس إيمانويل ماكرون وحركته السياسية بالمشهد السياسى. خاصة بعد احتواء حركة «السترات الصفراء» الاحتجاجية والتراجع عن كثير من «الإصلاحات» الموعودة لتخفيف حدة الاستياء الشعبى.
هكذا تبدو فرصة تاريخية لفرنسا للقيام على المستوى الدولى بمبادرات جريئة يُمكنها أن تساهم فى تخفيف حدة الأزمات السياسية والاقتصادية التى تصاعدت بشكلٍ كبير منذ أزمة ضم روسيا لشبه جزيرة القرم ووصول الرئيس دونالد ترامب إلى سدة الرئاسة الأمريكية.
وبالفعل استغل الرئيس ماكرون الفرصة المتاحة فى الصيف الفائت ولعب دور الوسيط الرئيسى، من ناحية تجاه الرئيس الروسى فلاديمير بوتين الذى استقبله فى منتجع الرئاسة، ومن ناحية أخرى بخصوص المواجهة التى كادت أن تتفجر بين الولايات المتحدة وإيران. هكذا عرف اجتماع مجموعة السبع G7 مشاركة إيرانية وإن كانت عبر الأبواب الخلفية، بموافقة أمريكية. فى حين شهدت مدينة بياريتز، وجارتها «سان جان دو لوز» الواقعتان فى منطقة الباسك، مسئولين إيرانيين يتجولون فى شوارعهما بين المصطافين مع تواجد كبير لقوات الأمن.
***
بعيدا عن مشهدية هذا الحدث، التى لها أهميتها، يأمل الدبلوماسيون الفرنسيون بأن قمة أمريكيةــإيرانية قد تُعقَد قريبا بفضل جهودهم. ذلك مهما استمر التصعيد ــ المنضبط رغم كل شىء ــ من قبل الطرفين. كما يتم الحديث عن عودة مجموعة السبعة إلى صيغة مجموعة الثمانى مع روسيا.
إن دخول فرنسا اليوم خط الوساطة بين الولايات المتحدة وإيران ليس أمرا عاديا. ففرنسا لها علاقة وثيقة مع إسرائيل، يُمكِن وصفها بالاستراتيجية، على الرغم من غياب ذلك عن التغطية الإعلامية. كما أن لها علاقات وطيدة مع طرفى الأزمة الخليجية، السعودية والإمارات من ناحية، حيث توجد قاعدة عسكرية فرنسية فى أبو ظبى، وقطر من ناحية أخرى. هذه الدول كلها عدائية تجاه إيران ومرشحة كى تكون مستهدفة فى حال اندلاع حرب فى الخليج. هذا عدا تداعيات احتمال إغلاق مضيق هرمز.
كما أن فرنسا تساند التحالف السعودى ــ الإماراتى ضد اليمن وتقدم له الدعم العسكرى واللوجستى، فى حين تقف إيران مع الحوثيين وحلفائهم. كما كانت هى الدولة الغربية الأبرز فى مناهضة السلطة القائمة فى سوريا وفى الدعوة إلى إسقاط رئيسها منذ اللحظة الأولى، وكذلك فى تشكيل ودعم «المعارضة السورية» والاعتراف بها ممثلا وحيدا للشعب السورى، بهدف إبعاد سوريا عن إيران تحديدا. وهى، أخيرا وليس آخرا، تتقاسم النفود على لبنان مع إيران، التى تدعم «حزب الله» كقوة ردع أساسية فى المنطقة.
واللافت أن فرنسا هى ذاتها التى كانت قد اعتمدت، عبر وزير خارجيتها الأسبق رولان فابيوس، أقسى موقف تفاوضى فى الملف النووى والصاروخى الإيرانى الذى يدور الخلاف الحالى حول خروج الولايات المتحدة منه، عبر استخدام الرئيس ترامب تقريبا ذات الحجج التى كان يرددها السيد فابيوس.
***
استفادة فرنسا من الفرصة الدبلوماسية الاستثنائية ربما جاءت نتيجة تحليلات داخلية تؤكد على عدم إمكانية الاستمرار فى النهج السابق، الذى ساد دون تغيير خلال رئاستى السيدين نيكولا ساركوزى وفرانسوا هولاند، وتداعيات التحولات على الصعيد العالمى، كما فى منطقة الشرق الأوسط. إذ انفرط عقد التجارة العالمية الحرة الذى كان مقدسا، وبرزت صراعات اقتصادية ومالية لها تداعيات طويلة الأمد على فرنسا. كما أن التحالف السعودى ــ الإماراتى فى اليمن بدأ بالانفراط مع دفع البلاد إلى التقسيم. كذلك يعترف الفرنسيون أن روسيا استطاعت أن تغير اللعبة فى سوريا وتحيّد إلى حدٍ ما الأدوار الإيرانية والتركية والإسرائيلية فى الصراع القائم، وربما قد توصلت إلى خطة طريق مع الولايات المتحدة للخروج منه. كذلك باءت سياساتها فى دعم أطرافٍ لبنانية عبر مؤتمرات تمويل وإصلاحات بالتعثر، وأضحى البلد على بوابة انفجار مالى ستكون فيه فرنسا فى الواجهة. وإسرائيل وجدت موقعا جيوسياسيا جديدا لها، ليس فقط بين الولايات المتحدة وروسيا، بل أيضا مع دول الخليج وفى إفريقيا وآسيا. هذا عدا أن تركيا، التى كانت حليفا أساسيا لفرنسا خلال التموضع تجاه تقلبات «الربيع العربى»، باتت تتخبط فى سياساتها.
لكن يبقى أن تتحول الفرصة المشهدية إلى إنجاز فى الواقع وأن تربح فرنسا مكانة جديدة فى لعبة الأمم من جراء جهودها الدبلوماسية. ولكن هذا التحول لن يكون سهلا. خاصة فى ظل التقلبات المزاجية للرئيس الأمريكى والصعوبة فى قراءة المواقف التى يُمكن أن يتخذها انطلاقا من حسابات ومصالح داخلية بحتة، حتى لو أدى الأمر إلى أزمة اقتصادية عالمية أو إلى توترات عسكرية يُمكن أن تُشعِل حروبا غير محسوبة النتائج. وخاصة أيضا فى ظل صعود القوة الروسية التى أضحت اليوم أكثر من ذى قبل ضرورة للصين وللتوازن العالمى.
وهنا من اللافت كيف تم التوصل إلى خلق مناخ «ثقة» بين الرئيس الفرنسى ماكرون من جهة والرئيسين الأمريكى والروسى من جهة أخرى. بالضبط على نقيض ما كان الحال عليه من سوء العلاقة بين الرئيسين ساركوزى وبوتين، وبين الرئيسين هولاند وباراك أوباما.
الرئيس الروسى بوتين كان قد أخذ المبادرة فى تغيير موقع بلاده فى لعبة الأمم فى حقبة ما بعد الثنائية القطبية، ودخل مثلا إلى حلبة الخليج. ويبدو أن لدى الرئيس ماكرون فرصة ذهبية كى تأخذ فرنسا موقعا أيضا جديدا، مختلفا عن ذلك لروسيا ولكن مغايرا لموقعها ما بعد الديغولية. إلا أن فرنسا تقع غالبا أسيرة عواطفها وتفاخرها بإرثها التاريخى.
فهل يتم تفعيل عملية استغلال هذه الفرصة... أبعد من مجرد المشهدية؟!