بإعلان البنك المركزى مؤخرا عن ارتفاع حجم الدين الخارجى إلى 79 مليار دولار بنهاية العام المالى 2016ــ2017، أى بزيادة قدرها حوالى 41.6% مقارنة بالعام السابق، عادت قضية الدين العام بشقيه الخارجى والمحلى لتطفو مرة أخرى على سطح المشهد الاقتصادى وتجدد المخاوف حول تزايد وتيرة الاقتراض ــ لا سيما الخارجى ــ وتداعيات ذلك على الدين العام وأعبائه على الاقتصاد المصرى. وبقراءة متأنية لبيان البنك المركزى حول حجم الدين الخارجى، استوقفتنى العبارتان التاليتان: «يظل الدين الخارجى فى الحدود الآمنة»، ثم «وفقا للمعايير العالمية»، وهما موضوع هذا المقال. فلقد استند بيان المركزى إلى هاتين العبارتين فى التدليل على أن الأوضاع المالية تحت السيطرة وتهدئة الرأى العام القلق بشأن الدين العام. وفى هذا الصدد تنبغى الإشارة إلى النقاط التالية:
أولا: على الرغم من أن بيان المركزى يتعلق بالدين الخارجى، فإن أمانة المسئولية ومبادئ الشفافية كانتا تستوجبان الإشارة إلى الصورة الكاملة لوضع الدين العام الإجمالي ــ المحلى والخارجي ــ والمستويات المخيفة التى يتنامى بها. فنحن كمواطنين معنيون ــ فى نهاية الأمر ــ بحجم الدين العام الإجمالى بشقيه؛ فالحكومات زائلة ويبقى سداد هذه الديون وتحمل تبعاتها مسئولية المواطن المصرى، بل وتستمر آثارها إلى الأجيال القادمة. ومن الجدير بالذكر أن نفس المعايير الدولية التى انتقت منها الحكومة ما تمتص به رد فعل الشارع حول حجم الدين الخارجى، تنص أيضا على أن الدين العام (المحلى والخارجى) ينبغى ألا يزيد على 60% من الناتج المحلى الإجمالى، وقد تجاوز الدين العام الإجمالى بالفعل ضعف هذه النسبة، وهذا يعنى أننا فى حقيقة الأمر داخل دائرة الخطر. بناءً عليه، فإن قبلنا مجازا أن الدين الخارجى فى الحدود الآمنة؛ فإننا أيضا يجب أن نعلم أن هذا الدين قد أسهم بشكل غير مباشر فى ارتفاع حجم الدين العام الإجمالى ووصوله إلى المستويات الحالية. إذن، إن كانت المؤشرات الاقتصادية «وفقا للمعاير الدولية» هى ما سنحتكم إليه فى تقييم أداء الحكومة، فمن الضرورى أن نلتزم بالموضوعية ونتخلى عن الانتقائية بين المؤشرات حتى لا ينحرف الهدف من هذه المؤشرات من أداة لتقييم الموقف ودافعا للإصلاح إلى مجرد وسيلة غير موضوعية للحكومة وهيئاتها الاقتصادية لتبرير إخفاقات سياساتها، وتضليل الرأى العام عن حقيقة الوضع الاقتصادى والمالى للدولة.
***
ثانيا: إن مؤشر نسبة تغطية صافى الاحتياطى النقدى الأجنبى للدين الخارجى رغم شيوع استخدامه ــ لا سيما فى تقارير المؤسسات الاقتصادية والمالية الدولية ــ فإنه لا يعدو كغيره من المؤشرات التى تستخدمها هذه المؤسسات عن كونه للمقارنة وإعطاء صورة عامة للوضع والأداء الاقتصادى للدول. والمؤشر الذى نحن بصدده رغم كونه – لا شك ــ مفيدا، إلا أنه يظل محدود الدلالة حول قدرة الدولة على الوفاء بالتزاماتها تجاه الدائنين كونه لا يمثل سوى علاقة شديدة السطحية بين حجم الدين الخارجى وصافى احتياطات النقد الأجنبى، مغفلا فى الوقت ذاته مؤشرات الاقتصاد الكلى الأخرى ذات العلاقات المباشرة وغير المباشرة على قدرة الدولة على سداد وتحمل تبعات الاقتراض الخارجى على المدى الطويل. وفى الاقتصاد لا معنى لأى مؤشر حول ظاهرة ما بقيمته المطلقة أيا كانت، وإنما تتوقف دلالته على علاقته النسبية بباقى المتغيرات الأخرى المرتبطة بهذه الظاهرة. ومن ثم؛ فمسألة «حد الأمان» للدين العام هى مسألة نسبية تتباين بشدة بين دول العالم، وبذلك فنسبة تغطية الـ 50% التى يحددها هذا المعيار ليست صك ضمان لتبديد مخاوف وتبرير زيادة الدين العام الخارجى. وللتأكيد تباين دلالات المؤشرات المالية، نسوق مثالا حول حجم الدين العام الإجمالى لدولة كاليابان والذى بلغ وفقا لبيانات 2017 حوالى 234.7% من الناتج المحلى الإجمالى، فى حين أنه يبلغ 99.6% لإسبانيا، وعلى الرغم من ذلك فالمخاوف المحلية والدولية بشأن تبعات الدين العام على الاقتصاد الإسبانى أعلى بكثير من حالتها بالنسبة للاقتصاد اليابانى، وذلك للتباين الشديد بين بنية اقتصادى الدولتين، واختلاف الخصائص المالية والاقتصادية لكل منهما. لذلك، «فحد الأمان وفقا للمعايير الدولية» يبقى مجرد خط وهمى لتوصيف وضع الدين العام ووسيلة فقيرة للتعبير عن قدرة الدولة على السداد والوفاء، ولكن تبقى مسألة تحديد الحد الحقيقى للأمان مسألة محلية بحتة تحددها كل دولة وفقا لخصائصها وظروفها الاقتصادية الحالية وتوقعاتها المستقبلية للأوضاع الاقتصادية.
ثالثا: إن محاولة الحكومة الحالية المستمرة وحرصها الدائم على التأكيد على أن مشكلة الدين العام كانت دائما إحدى المشكلات المزمنة للاقتصاد المصرى، وإن كانت حقيقة لا خلاف عليها، إلا أن الحقيقة الأخرى التى لا يمكن إنكارها أيضا هى أن الحكومة الحالية قد حولت الدين العام من مشكلة إلى أزمة مستفحلة، فلقد تنامى الدين العام وخصوصا الخارجى فى ظل هذه الحكومة بوتيرة غير مسبوقة، وليس أدل على ذلك من المقدار الذى زاد به الدين العام الخارجى خلال العام المالى الأخير وحده، والذى بلغ حجمه 23.2 مليار دولار، أى بمعدل حوالى 2 مليار دولار شهريا.
***
رابعا: إن الإنصاف يقتضى منا الإشارة إلى أن الاتجاه العام فى الفكر الاقتصادى المعاصر يرى الاقتراض والديون المترتبة عليه وسيلة معتبرة وأداة مشروعة لتغطية وتمويل عجز الموازنة ــ لا سيما فى الدول النامية ــ متى أحسنت الحكومات إدارة الدين وتوظيف القروض. وعلى الرغم من هذا، فالحالة المصرية تبقى فريدة النوع شديدة الخصوصية، فأغلب الديون يتم توجيهها لتمويل متطلبات الدعم وتوفير السلع الغذائية ودفع أجور الموظفين فى الدولة، ومظاهر سوء إدارة الدين العام لا تخفى على من له علم بأوليات الاقتصاد فتتجلى فى تزايد الدين من سنة لأخرى وارتفاع كلفته وأعبائه، وتصاعد عجز الموازنة، إلى جانب انخفاض كفاءة توظيف القروض وتدنى مردود المشروعات التى تم الاقتراض من أجلها. ولذلك فلم تنجح الحكومة مقارنة بحكومات دول نامية أخرى فى الاستفادة من القروض وتوظيفها ــ بجانب تمويل عجز الموازنة ــ فى تمويل مشروعات إنتاجية تسهم فى رفع مستويات النمو الاقتصادى بمعدلات تمكنها بشكل «آمن» من تحمل الديون وأعبائها.
خامسا: إنه من الأجدر، بدلا من التبرير والمحاولات المستمرة للتأكيد على كون الدين العام فى الحدود الآمنة، أن تركز الحكومة – بشكل عملى وعلمي ــ على معايير الرشد فى إدارة الدين العام، فلا حدود آمنة للدين إلا إذا اقترنت بالمقدرة الحقيقية على تحمل الالتزامات الناشئة عن الاستدانة. ولا شك أن الوضع الاقتصادى المتأزم حاليا ــ لا سيما فى ظل رصيد وهمى لاحتياطيات النقد الأجنبى، وتراجع الاستثمارات الأجنبية وعائدات القطاع السياحى وقناة السويس، فضلا عن هبوط تحويلات المصريين العاملين بالخارج، وارتفاع سعر الدولار، وتنامى عجز الميزان التجارى وميزان المدفوعات ــ يجعلنا أمام الكثير من علامات الاستفهام حول القدرة المالية الحقيقية للحكومة على تحمل تبعات الاقتراض. فحين يتحول الاقتراض إلى سلوك حكومي؛ فإننا قد نجد أنفسنا أمام ما يطلق عليه مصيدة الديون، فنقترض لسداد ديون سابقة، فتزيد أعباء الديون ويرتفع عجز الموازنة، وهنا نحتاج للاقتراض مرة أخرى، فتزيد قيمة القروض، وترتفع أعباء خدمة الدين من جديد، وهكذا ندور فى حلقة مفرغة يصعب الخروج منها.
سادسا: إن سياسة الحكومة فى التعامل مع الدين العام من خلال العبث غير المسئول بمنظومة الدعم وتحميل الطبقات الفقيرة آثار عجز الموازنة وتداعيات ارتفاع الدين العام، معولةً فى ذلك على التأييد الشعبى وقدرة المواطنين على التحمل، ليست وسيلة مستدامة، فقدرة المواطنين على التحمل لها هى الأخرى «حدود آمنة». ولو عدنا «للمعايير الدولية» التى تحتكم إليها الحكومة، فمن المتعارف عليه «كحد أمان» ألا يزيد نصيب الفرد من الدين العام على 50% من متوسط دخله فى السنة. وفى ظل شهية الحكومة المفرطة للاستدانة من الخارج خلال السنوات الأربع الماضية، اختلت هذه النسبة كثيرا وتجاوز نصيب أفراد فئات مجتمعية عديدة من الدين العام حدود الأمان بشكل صار ينذر بالخطر، وأضحى المواطن المصرى ــ وهو الحلقة الأكثر ضعفا فى المنظومة الاقتصادية ــ هو المتحمل الحقيقى لنتائج سوء الإدارة الحكومية لملف الدين العام. ولو استمر معدل زيادة الدين العام بهذه المستويات، فستفشل أى محاولة للسيطرة على التضخم، وحينها سيدرك المواطن أن الدولة قد أخفقت فى ضبط الأسعار وتأمين احتياجاته، وأن ميزانية الدولة تلتهمها خدمة الديون، وأمام هذه المعطيات تصبح الاحتجاجات الاجتماعية نتيجة منطقية، وهو سيناريو كارثى لا يستطيع الاقتصاد المصرى تحمل تبعاته ولا التكهن بنتائجه وتداعياته.
***
الخلاصة: إن محاولات إنكار أزمة الدين العام التى نعيشها وعدم الاعتراف بخطورتها من خلال توظيف المؤشرات الدولية للحدود الآمنة فى غير ما صممت له، وفى ظل ظروف استثنائية للاقتصاد المصرى تبطل دلالة ومعنوية هذه المؤشرات، يجعل هذه المحاولات بمثابة دفن للرءوس فى الرمال وعامل إضافى يأزم المشكلة ويزيدها تعقيدا. فعلاج أى أزمة يبدأ أولا بالاعتراف بها، ثم التشخيص الدقيق لأبعادها، ثم وضع الحلول العملية التى تستفيد من المعايير والتجارب الدولية وتأخذ فى الاعتبار خصوصية الأوضاع الاقتصادية المحلية.
مازالت أمامنا فرص، ولا يزال لدى الاقتصاد المصرى من الأدوات ما تمكنه من المناورة، وأرجو أن نستفيد من هذه الفرص وأن نحسن إدارة تلك الأدوات قبل أن يتفاقم وضع الدين العام فنجد أنفسنا – لا قدر الله ــ أمام أزمة ديون سيادية لا تحمد عقباها ولا يعرف منتهاها.