نشرت جريدة المستقبل اللبنانية مقالا للكاتبة «جمانة نمّور» جاء فيه، أن «تغيُر المناخ» مصطلح دخل أدبياتنا بقوة فى السنوات الأخيرة، ودق جرس إنذار كان من المفترض أن تهتز معه البشرية جمعاء، وتتوحد فى مواجهة تداعياته، لكن مع الأسف بقى العالم مقصرا فى وضعه على رأس سلم أولوياته. ذلك أن سمة العصر ما انفكت التنافس هنا والصراع هناك، تناتش على قطع جبن فيما القطيع يسير نحو الاندثار.
ما يعطى بارقة أمل، هو موجة الاعتراف الكبيرة بالأزمة، رغم غض الطرف من بعض واضعى السياسات، الذين يحاولون الهروب إلى الأمام عبر التمسك بمصالحهم الآنية وتلك الكامنة فى المستقبل القريب. وهم بذلك يضعون كالنعامة رءوسهم فى التراب، متناسين أن التراب نفسه ليس سوى قشرة قد تلفظها أمنا الطبيعة جانبا، وتلفظنا معها كجنس بشرى، إذا اقتضت الضرورة ذلك.
العالم العربى، وهو بالمناسبة من أكبر المتضررين، اعترف بالظاهرة، وفى إعلان وزارى مشترك صدر عام ٢٠٠٧ أقرّ بالآثار المحتملة لتغير المناخ على التنمية فى المنطقة. وقد انبثقت عن ذاك الإعلان مبادرة «ريكار» (المبادرة الإقليمية لتقويم أثر تغير المناخ على الموارد المائية وقابلية تأثر القطاعات الاجتماعية والاقتصادية فى المنطقة العربية). ومنذ ذلك الوقت، انكبت الأطراف المشاركة فى المبادرة على إجراء البحوث والدراسات العلمية لرصد الظاهرة وانعكاساتها على أكثر من صعيد بيئى وحياتى.
بعد سنوات من البحث، تم وضع تقرير مفصل أبرز ما جاء فيه أن التغيير المناخى حصل فعلا وقد تم رصده عبر أكثر من مؤشر، أبرزها ارتفاع مضطرد فى درجات الحرارة، وتغيير فى نسق هطول الأمطار، مع ما يحمله ذلك من انعكاسات على المحاصيل الزراعية والصحة العامة والتنمية البشرية. علما أن منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وبحسب الدراسات المتوقعة، ستكون الأولى التى ستواجه قريبا أزمة ندرة المياه العذبة، والارتفاع الهائل بدرجات الحرارة. وهو تحدٍ تستتبعه بالضرورة معوقات تطال كل مناحى الحياة البشرية والحيوانية والنباتية والمائية.
التقرير الذى استمر العمل عليه لسنوات، تضمن معلومات قيمة غير مسبوقة، حاولت مد جسور بين العلم والتكنولوجيا من جهة، والاقتصاد والسوسيولوجيا من جهة أخرى، فى محاولة لتوفير بنية تحتية يمكن البناء عليها من أجل البحث عن حلول. وقد تم عرضه خلال مؤتمر رفيع المستوى نظمته الاسكوا مع إحدى عشرة منظمة أخرى، وعقد فى العاصمة اللبنانية بيروت برعاية رئيس مجلس الوزراء سعد الحريرى. تميز المؤتمر بمحاولة البحث عن سبل علمية تتيح التكيف مع تداعيات التغير المناخى الحاصل فعلا، والذى إذا لم يتم تداركه، سيغير فى طرائق عيشنا ونمط حياتنا. ويكفى أن نعطى مثالا على ذلك، صعوبة الحصول على مياه الشرب، أو استحالة الحج إلى مكة خلال سنوات معدودات فى فصل الصيف إذا ما استمرت درجات الحرارة بالارتفاع، وصح ما يتوقعه علماء من أنها ستفوق قدرة الجسم البشرى على احتمالها.
اللافت فى المبادرة بحد ذاتها، وفى الكلمات التى أُلقيت والحوارات والنقاشات التى حصلت، كان التركيز على ضرورة التعاون الإقليمى. فكما ورد فى كلمة الجامعة العربية، فإن «التحديات إقليمية، وحلها لا يمكن أن يكون محليا، ويجب العمل على الانتقال من فهم الآثار الناجمة من تغير المناخ على القطاعات الحيوية، إلى تنفيذ ما توصلت إليه البحوث المنجزة قبل فوات الأوان. هناك إجراءات يجب أن تنفذها المنطقة بسرعة لأن كلفة التغيير المناخى كبيرة وكبيرة جدا». وتغير المناخ بالنسبة للوكالات الأجنبية الداعمة والمشاركة فى المبادرة «لا يعرف حدودا، ومبادرة التعاون الإقليمى يجب أن تتطور إلى فعل ينتفى الفشل من قاموسه». كيف لا، والحياة نفسها على المحك.
نقاش إيجابى يُبنى عليه وعمل يستحق التحية والإجلال؟ بالتأكيد. لكن هل يكفى وحده؟ لا. لماذا؟ لسببين رئيسيين:
الأول، أن الحدود الإيكولوجية للأزمة لا تقف عند الدول العربية، بل تتخطاها إلى تركيا وإيران وما بينهما من مناطق كردية مشغولة بأزماتها الخاصة هذه الأيام. علما أن معظم مصادر المياه الأساسية هى مشتركة مع خارج حدود الدول العربية، والمخاطر كلها مشتركة أيضا. وعليه يصبح الحديث عن تعاون وتكامل إقليمى ناقصا، ما لم يتم الانفتاح على باقى الأضلع فى المربع الإقليمى، والتوافق معها على ضرورة البحث عن حلول مشتركة قبل أن يفوت الأوان. علّها تكون فرصة تفتح كوة فى جدار الصراعات التاريخية والحديثة، وتسمح بنقلة نوعية نحو البحث عن حلول مستدامة على كل الصعد.
الثانى، أن يصل الباحثون والخبراء إلى استنتاجات ونتائج علمية، شيء، وأن تتحول توصياتهم إلى سياسات قابلة للتنفيذ شيء آخر. وهنا التحدى الأكبر، الذى يبقى ماثلا أمام صنّاع القرار علّهم يتلمسون طريق الحق، ويعطون الأولوية لحياتنا كبشر على هذا الكوكب، وحياة الكوكب بحد ذاته كما عرفناها على مدى آلاف السنين.
لكن الأهم من هذا وذاك، هو أن نتمكن نحن، كأفراد، من الانتصار على جهلنا. علّنا نربح معركة وعى عبر محاولة وصل ما انقطع مع طبيعة هى فى أساس الحياة وعلة الوجود. البداية قد تكون عبر إعادة النظر بعلاقتنا بمن حولنا وما حولنا، فلربما نكتشف أن الآخر ما هو إلا نحن بثوب مختلف، وهو مثلنا يستحق فرصة لاستمرار الحياة.
المستقبل ــ لبنان