انتفاضة لبنان.. أصلها وفصلها
مواقع عربية
آخر تحديث:
الجمعة 8 نوفمبر 2019 - 8:05 م
بتوقيت القاهرة
نشر موقع درج مقالا للكاتب «حازم الأمين» وجاء فيه:
تفترض الانتفاضة اللبنانية من خصومها نوعا مختلفا من الخصومة. فهؤلاء الخصوم اعتادوا واختبروا خط انقسامٍ مختلفا، ولهذا جاءت ردودهم عليها مضحكة. «عملاء السفارة»، عبارة ولدت لتغطى وجوها ومرحلة وجيلا مختلفا، ولهذا استدعت حين وُوجه بها طالب جامعى اليوم ابتسامة العاجز عن فهمها. «عملاء السفارة!» أى سفارة؟ ماذا تعنى؟ هل هذا شىء سيئ أم جيد؟ وهذا التلميذ إذ أبدى عدم اكتراث بدلالاتها، ترك متهميه أسرى حيرتهم بما تقتضيه مواجهته. أمين عام «حزب الله» حسن نصرالله ورئيس الجمهورية ميشال عون لا يملكان لغة لمخاطبة هذا المتظاهر الجديد. أما نحن «ركاب» التظاهرات المعتادة فلم نكن أكثر من هامش ومن زوار لتظاهرات غيرنا.
لعل الارتباك الأكبر الذى أصاب خطاب السلطة بارتجاج هو عدم امتلاكها لغة لمواجهة المتظاهر الجديد. المتظاهر «غير المهذب» وغير المنضبط الموصوم بتهمة السفارة، لا تعنى له الأخيرة أكثر من تأشيرة هجرة لم يتمكن من الحصول عليها. فلنتخيل طالبا جامعيا فى التاسعة عشرة من عمره وقد اتهمه أمين عام «حزب الله» أو تلفزيون «أو تى فى» بأنه عميل للسفارة. الاتهام لن يصيب به منظومة الخوف التى تأسست فينا نحن أجيال «تظاهرات السفارات».
لم يفلح خطاب الردع التقليدى فى رد المتظاهر الجديد إلى منزله، إذ إن هذا الخطاب تم بناؤه لمتظاهر آخر، ليس أقل شجاعة، إنما متظاهر صادر عن نمط مختلف من الخوف ومن الحذر. «السفارة» لا تردع المتظاهر الجديد، ولا يردعه أيضا وصفه بـ«قلة التهذيب». والأهم هو مستوى القطيعة بين المتظاهر الجديد وبين سبابة السيد وبينه وبين وجه الرئيس الهرم.
ما جرى للراهبة التى هددت طلابها بفصلهم من المدرسة فى حال شاركوا فى التظاهرة كانت نموذجا كاشفا للهوة بين الأجيال. فالراهبة استدرجت عشرات الحكايات التى كتبها على «فيسبوك» من سبق أن تعرضوا لقسوة راهبات المدارس فى ما مضى، وهؤلاء قالوا أن راهبات ذلك الزمن لطالما انتصروا على تلامذتهم. الأمر بالنسبة لتلامذة اليوم لم يكلف أكثر من نشر رسالتها على «واتس آب»، لتعتذر الراهبة ولتتراجع عن تهديدها.
الحكمة كانت تقتضى أن تُواجه التظاهرات بالاختفاء الكامل، فالأحزاب لم تعد نفسها للأجيال الجديدة. كانت منشغلة بغنائم السلطة، وكان فتية كثيرون ينشأون فى غفلة منها. السلطة وأحزابها لم تعد نفسها لأنواع من المعارف يصعب صدها، ولهذا شرعت تتهم السرعة التى أبداها المتظاهرون فى إنتاج محتوى الثورة البصرى بأنه «مؤامرة» معدة مسبقا، وأن ثمة من كان يُنتج كل هذه الفيديوهات والعبارات والشتائم قبل بدء الاحتجاجات. السلطة وأحزابها والأهل والمدارس لا يعرفون أن الهاتف صار بإمكانه أن يتحول إلى جهاز إنتاج. ومن يعرف هذه الحقيقة لم يسعفه خياله بأنها ستوظف للإطاحة به. السرعة هى جزء من ثقافة شرعت تنشأ بتأثير من تكنولوجيا ومن ثقافة مختلفة.
ما يحصل هو نوع من السبق فى سياق خصومة من نوع جديد. وفى هذا السبق، بدت أسلحة السلطة صدئة. سلاح «حزب الله» لم يتمكن من أن يتحول إلى فكرة رادعة على ما دأب يفعل فى السنوات السابقة. خطب الأمين العام المتتالية تحولت إلى خسارات متتالية. ومساعى «التيار الوطنى الحر» إلى تصوير ما يحصل بصفته «شارعا فى مقابل شارع» باءت بالفشل، ذاك أن خلطا هائلا للشوارع أحدثته التظاهرة وصار من الصعب رده إلى زمن ما قبل الانتفاضة.
لطالما شعرنا ونحن نشارك فى التظاهرة بأننا ضيوف، وبأن من يقودنا فيها هم جيل ما بعد تظاهرة عام 2015. كان هذا شرطا لكى تنسجم مشاركتنا مع وجه التظاهرة ومع لغتها. وهى، أى التظاهرة، كانت من الذكاء بحيث أدركت أين يجب أن نصطف فيها، ومتى عليها أن تنظر إلى وجوهنا. كثيرون منا لم يشعروا بانسجام معها. هذا تماما ما حصل لنصر الله بصفته خصمها أيضا. فمثلما لم يجد وأحدنا وجهه فيها، لم ينجح نصر الله فى تحديد وجه خصمه فيها. شرع يقول إنه معها بشرط أن تكون «مهذبة» وبشرط ألا تشمله شعاراتها. وهل يعقل أن يضع أحد شروطا على تظاهرة! كثيرون منا حاولوا المشاركة ولم يستسلموا لحقيقة صدورها من حساسية مختلفة ومن هم مختلف.
الانتفاضة ليست امتدادا لانقساماتنا. متنها جاء من مكان آخر تماما، وفى هوامشها التقى آلافا من طرفى الانقسام. السلطة لم تجد فى مواجهتها سوى لغة لا تصلح لمخاطبتها ولمواجهتها، ولهذا بدت هزيلة، وشرعت الخطب تتهاوى خطابا بعد آخر. وجه الرئيس اهتز فى المحاولة الأولى، فيما بدل الأمين العام صورته فى الخطاب الثانى وزرع علما لبنانيا خلفه. لم تجدِ هذه المحاولات، ذاك أنها كشفت عن مزيد من الارتباك، واستدرجت مزيدا من الابتسامات.
الأرجح أن الحل لمن لا يستطيع الاندراج بصمت فى التظاهرة، أن يختفى تماما، وأن يتركها بحالها، وأن يشرع بتفكير متأخر بحقيقة أنها سبقته، وأنه لم يعد مؤهلا لهذه المواجهة.
النص الأصلي