مصر وأمن الطاقة الأوروبى
بشير عبد الفتاح
آخر تحديث:
الإثنين 8 نوفمبر 2021 - 9:05 م
بتوقيت القاهرة
إلى كابوس مزعج، تحولت أزمة الطاقة، التى تقض مضاجع الأوروبيين منذ شهور. فلقد تلاقى تنامى طلبهم عليها، إثر حلول الشتاء وتقليص قيود الإغلاق، مع ارتفاع أسعار الوقود الأحفورى، ونقص إمدادات الغاز الروسية، وانحسار التدفقات القادمة من بحر الشمال، وتواضع المخزون الاحتياطى. واستنقاذا منها لأمنها الطاقوى، انبرت الحكومات الأوروبية فى مساعى سد العجز وتحقيق الاكتفاء الذاتى، عبر زيادة إنتاجها من الطاقتين التقليدية والمتجددة فى آن. كما تضافرت جهودها الحثيثة لتنويع روافد الاستيراد، وتقليص وتيرة الاعتماد على الغاز الروسى، الذى تلاحق موسكو اتهامات غربية باستخدامه سلاحا جيوسياسيا لابتزاز الاوروبيين، من خلال استحداث مصادر رديفة، مثل: قطر، وأذربيجان، والجزائر، ونيجيريا، ومصر.
مبكرا، لاحت توجهات سياسات الطاقة المصرية لرى الظمأ الأوروبى.ففى عام 2000، تم الاتفاق على إنشاء «خط الغاز العربى» لتصدير الغاز المصرى إلى دول المشرق العربى، ومنها إلى أوروبا، على ثلاث مراحل. انطلقت أولاها من عريش سيناء إلى عقبة الأردن، بتكلفة 220 مليون دولار، وأُنجزت عام 2003.واتجهت ثانيتها من العقبة إلى منطقة الرحاب الأردنية على الحدود مع سوريا، بطول 390 كم، وتكلفة قدرها 300 مليون دولار، وتم الانتهاء منها عام 2005. أما ثالثتها، الممتدة من الأردن إلى دير على بريف دمشق، فقد كان مقررا لها بلوغ مدينة كلس التركية، توطئة للالتحام بخط غاز نابوكو، المتصل بالأراضى الأوروبية عام 2010. غير أن اندلاع أحداث العام 2011، وتتابع استهداف أعمال المشروع، حالا دون ذلك.
وبعدما قفزت بإنتاجها من الغاز الطبيعى إلى 7.2 مليار قدم مكعب يوميا، كما توسعت فى الاكتشافات الغازية خلال السنوات القليلة الماضية، لتغدو صاحبة أضخم احتياطى بشرق المتوسط، يقدر بنحو 2.186 تريليون متر مكعب، وفقًا لبيانات شركة «بى بى» البريطانية، وإدارة معلومات الطاقة الأمريكية، تمكنت مصر عام 2018 من تحقيق الاكتفاء الذاتى من الغاز الطبيعى، والالتحاق بالنادى العالمى لمصدريه.
وبخطى واثقة تمضى مصر على درب التحول إلى مركز إقليمى لتجارة وتداول الغاز بمنطقة البحر المتوسط، انطلاقا من بلوغها مستوى الاكتفاء الذاتى واستنادا إلى بنيتها التحتية الفريدة. فإلى جانب الشبكة القومية للغازات الطبيعية، بشموخ تطل مصانع الإسالة الرابضة على شاطئ البحر المتوسط فى إدكو ودمياط، والتى تعد الأضخم من نوعها عالميا، خصوصا مع إمكانية توسعها المستقبلى فى طاقتها الاستيعابية. ثمة مزية جيواستراتيجية تنافسية أخرى تتمتع بها مصر، تتجلى فى قربها من السواحل الجنوبية والغربية لأوروبا، بما يقلص زمن، وتكلفة، ومخاطر نقل غازها المسال إلى القارة العجوز، مقارنة بالمنافسين الآخرين.
تطلعا لاستثمار القدرات والتسهيلات اللوجيستية المتاحة لزيادة صادراتها من الغاز، توسعت مصر فى عمليات الاستقبال، والإسالة، والتسويق. ففى عام2018، وقعت اتفاقا مع إسرائيل لاستيراد 64 مليار متر مكعب من الغاز، بقيمة 20 مليار دولار، على مدى خمسة عشر عاما، لتسييله فى مصر وإعادة تصديره عالميا. وفى ذات العام، أبرمت اتفاقا مع قبرص لمد خط أنابيب، بتكلفة مليار دولار، من حقل «أفروديت» القبرصى، الذى تتراوح احتياطياته ما بين 3.6، و6 تريليونات قدم مكعبة؛ بغرض تسييلها فى مصر وإعادة تصديرها إلى أوروبا. وخلال قمتهم التاسعة بالعاصمة اليونانية فى أثينا الشهر الفائت، أكد زعماء مصر واليونان وقبرص، على أهمية متابعة نتائج اللجنة العليا المشتركة وتنفيذ ما تم الاتفاق عليه خلالها، خصوصا لجهة الربط الكهربائى البينى، وتسريع خطوات إنشاء مشروع خط الأنابيب المعنى بنقل غاز شرق المتوسط المسال من مصر إلى الأسواق الأوروبية.
برغم ما يشاع حول خط أنابيب «إيست ميد»، الذى اتفقت قبرص واليونان وإسرائيل على إنشائه فى يناير 2020، بامتداد 1900 كيلومتر، وتكلفة سبعة مليارات دولار، لنقل عشرة بلايين متر مكعب سنويا من غاز شرق المتوسط إلى أوروبا، يظل خط الغاز المصرى المزمع هو البديل الأسرع والأفضل لدول الاتحاد الأوروبى. فعلاوة على استمرار العمل فى إنشاء «إيست ميد» حتى عام 2027، من شأن تعاظم نهم الدول الأوروبية فى الطاقة، أن يجبرها على تأمين عديد خيارات لتلبية احتياجاتها المتفاقمة، الأمر الذى يجعل خطوط نقل الغاز من جنوب المتوسط إلى شماله، متكاملة غير متنافسة.
فى مارس الماضى، وبعد توقف لثمانى سنوات، استأنفت مصر تصدير أول شحنة غاز طبيعى لأوروبا، من محطة الإسالة بدمياط، بعد إعادة تشغيلها، بواقع 10 شحنات شهريا، معلنة عزمها زيادتها قريبا إلى 20 شحنة شهريا، بما يعادل مليار قدم مكعبة يوميا. وبعدما صدرت نحو 1.4 مليون طن غاز مسال فى الربع الثانى من العام الجارى، مقابل لا شىء خلال نفس الفترة من العام الماضى، أكدت بيانات الجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء، تنامى صادرات مصر من الغاز الطبيعى بثلاثة أضعاف، خلال الربع الأول من العام الجارى، محققة عائدات تناهز 564 مليون دولار. وفى أغسطس الماضى، خلصت دراسة لمنظمة الأقطار العربية المصدرة للبترول، إلى أن مصر أسرع الدول العربية نموًا فى أنشطة تصدير الغاز الطبيعى المسال، متوقعة تحولها إلى لاعب أساسى ومنافس بارز فى السوق العالمية.
بقصد مأسسة سياسات الطاقة المصرية، شهدت القاهرة فى يناير 2019، تدشين منتدى غاز شرق المتوسط، الذى تحول فى العام التالى إلى منظمة إقليمية، تستهدف تعميق التعاون بين الفاعلين الدوليين، وإنشاء سوق إقليمية للغاز، ومد خطوط الأنابيب لتعظيم الاستفادة من مخزوناته. وقبل أيام، واستكمالا لبناء الإطار القانونى للمنتدى، وافق مجلس النواب نهائيا، على اتفاقية مقر المنتدى، ما يمنحه الشخصية الاعتبارية، والأهلية للتعاقد والتصرف فى الممتلكات، وإقامة الدعاوى القانونية باسمه، واتخاذ الإجراءات الضرورية وفقا لميثاقه والقوانين المصرية. أما تشريعيا، فقد شكلت الحكومة المصرية جهازا مستقلا لهيكلة منظومة الغاز وتهيئة بيئتها التشريعية، من خلال إصدار قانون تنظيم أنشطة سوق الغاز، وتحريره أمام المنتجين والمستهلكين. وبموجب قرار رئيس مجلس الوزراء، جرى تأليف لجنة حكومية لتنفيذ مشروع تحويل مصر إلى مركز إقليمى للطاقة.
بعدما أنجزت معجزتها اللافتة، فى بضع سنين، عبر تحقيق الاكتفاء الذاتى من الكهرباء، وتوفير فائض قدره 11 ألف ميجا وات، بنسبة 25%، سارعت مصر إلى تحرى السبل الكفيلة بتصدير ذلك الفائض إلى الخارج، لاستجلاب العملات الصعبة، وتعزيز دورها فى أمن الطاقة العالمى. فعلاوة على امتلاكها إمكانات سعة 50 جيجا وات، وفائض يضارع خمس هذه السعة، تعكف القاهرة على استثمار مزيتها الاستراتيجية كمنتج للطاقة المتجددة الرخيصة فى منطقتى بنبان وجبل الزيت. كما توسعت فى تنويع مزيج الطاقة المصرى، وزيادة نسبة الطاقة المتجددة فيه من 8.6%، إلى 22% بحلول العام 2022، مع إضافة نحو ستة آلاف ميجاوات جديدة إلى شبكة الكهرباء لرفعها إلى 24% خلال العام المقبل، توطئة للقفز بها إلى 42% بحلول عام 2035. ولم تتوانَ مصر عن استخدام تكنولوجيا الهيدروجين الأخضر؛ لمواكبة التوجه العالمى فى تقنيات الطاقة النظيفة، كما تتوسع فى بناء محطات الكهرباء العملاقة، وأنظمة إنتاج الطاقة من الشمس والرياح، مع تقليص الاعتماد على محطات الغاز والطاقة الكهرومائية، بما يزيد قدرتها التصديرية عبر شبكات الربط الكهربائى، التى تستند إلى بنية أساسية من شبكات التوزيع والنقل، تؤهلها للربط مع محاور شتى.
ما إن أتمت مشاريع الربط الكهربائى، مع السودان، والسعودية، والأردن، حتى شرعت فى التخطيط لتصدير الكهرباء للاقتصادات الناشئة فى شمال أفريقيا، والتحضير للربط الكهربائى مع قبرص واليونان، بما يجعلها نقطة التقاء وتوزيع بين قارات آسيا وأفريقيا وأووربا. فمؤخرا، تم توقيع الاتفاق الثلاثى فى مجال الربط الكهربائى، واتفاقيتين ثنائيتين لربط الشبكة الكهربائية بين مصر وكل من اليونان وقبرص على المستوى الثنائى، تمهيدا للالتحام ببقية أرجاء أوروبا. حيث سيتم إيصال فائض الكهرباء المصرى إلى الدول الأوروبية عبر خط كابلات بحرى جهد 500 ك. ف، بنظام DC، وقدرة 2000 ميجاوات. وستبلغ تكلفة المرحلة الأولى من خط (مصر ــ قبرص ــ اليونان) 2.5 مليار يورو، ومن المرجح تشغيله فى ديسمبر 2023، بقدرة نقل أولية تناهز 1000 ميجاوات.
واستنادا إلى مزيتها النسبية بهذا الصدد، والمتمثلة فى انخفاض تكلفة إنتاج الطاقة المولدة من الشمس، إلى مستوى شجعها على تسعير الكيلووات فى الساعة للقطاع الصناعى المصرى بتسع سنتات فقط، مقارنة بـ 15.4 سنت فى دول مثل ألمانيا وإيطاليا. سيتسنى لمصر عرض أسعار تنافسية لكهربائها المنبعثة من مجمع بنبان فى أسوان، والمتجهة لدول الاتحاد الأوروبى، بواقع 2.4 سنت لكل كيلووات فى الساعة، مقابل 23 سنتًا لكل كيلووات فى الساعة، تتكبدها الأسر الأوروبية.
وإبان القمة المصرية اليونانية القبرصية التاسعة، بمدينة أثينا، الشهر الفائت، ضمن آلية التعاون الثلاثى الدورية، تم توقيع مذكرة تفاهم لتزويد أوروبا بالكهرباء المصرية، ضمن إطار تعزيز التعاون فى مجال الطاقة بين دول شرق المتوسط. وهى الخطوة، التى اعتبرها الرئيس السيسى تمهيدا لربط مصر بالشبكة الكهربائية الأوروبية، وتعزيزا لدورها كمركز لإمداد القارة العجوز بالطاقة المتجددة على المدى الطويل. بدوره، أشاد رئيس الوزراء اليونانى بأهمية مصر، كمُصَدِر للكهرباء، التى يتم إنتاجها بواسطة الطاقة الشمسية، والتى ستصبح اليونان محطة توزيعها أوروبيا. فمن شأن المشروع، الذى يعد أول بنية تحتية من نوعها فى شرق البحر المتوسط لدعم أمن الطاقة الأوروبى، أن يقوى أواصر التعاون الاقتصادى، ليس بين الثالوث المتوسطى فحسب، ولكن مع الدول الأوروبية جمعاء. الأمر الذى يضفى على الشراكة المصرية الأوروبية تنوعا ثريا، ويكسبها سمتا استراتيجيا.