تفكيك الناتو فى مقطع فيديو
عبد الله السناوي
آخر تحديث:
الأحد 8 ديسمبر 2019 - 10:10 م
بتوقيت القاهرة
كأنه مقطع معدل من الشريط السينمائى «الكيت كات»، المستوحى من رواية «مالك الحزين» للأديب الراحل «إبراهيم أصلان».
دون أن ينتبه الشيخ الكفيف «حسنى» أن ميكروفون العزاء ما زال مفتوحا، وأن الحى كله يسمع، أخذ يذكر ما وصل إلى علمه من فضائح بالوقائع والأسماء.
كان ذلك تعبيرا عن حجم التحلل الأخلاقى والسياسى فى الحى الشعبى الفقير، منتصف سبعينيات القرن الماضى، بأثر الانفتاح الاقتصادى وتحولاته فى بنية المجتمع المصرى.
هكذا بدا مقطع الفيديو، الذى التقط وبث دون قصد، أثناء حفل استقبال فى قصر بكنجهام الملكى البريطانى على شرف زعماء دول حلف «الناتو»، بمناسبة مرور سبعين سنة على تأسيسه.
كان المقطع قريبا من الحقيقة، رغم أجواء النميمة فيه، حقيقة أحوال الحلف ومدى التحلل السياسى والاستراتيجى الذى يضرب أركانه.
الجو العام فى مقطع الفيديو يشى بسخرية لاذعة من الرئيس الأمريكى «دونالد ترامب» ومؤتمراته الصحفية المطولة، التى أفضت إلى تأخير بدء أعمال قمة حلف «الناتو» فى صباح ذلك اليوم.
كان صوت رئيس الوزراء الكندى «جاستن ترودو» واضحا، وهو يسخر من «ترامب»، فيما كان القادة الثلاثة الآخرون، وهم الرئيس الفرنسى «إيمانويل ماكرون» ورئيس الوزراء البريطانى «بوريس جونسون» ورئيس الوزراء الهولندى «مارك روتى»، متجاوبين مع سخريته دون أن تلتقط أصواتهم.
فى السخرية نظرات سلبية لمستقبل الحلف، كما مستوى القيادة الأمريكية.
ما تعريفه لدوره؟ لا توجد إجابة واحدة متماسكة.
من هو العدو؟ لا توجد إجابة قابلة للتوافق عليها.
عند تأسيس الحلف عام (1949) كان ذلك مشفوعا بردة فعل تخشى من تمدد النفوذ السوفيتى فى شرق أوروبا على أمن الحلفاء الغربيين.
وفق حقائق ما بعد الحرب العالمية الثانية انقسم العالم استراتيجيا واقتصاديا وأيديولوجيا بين معسكرين كبيرين، أحدهما عبر عن نفسه فى حلف «وارسو» الذى يقوده الاتحاد السوفيتى، والآخر فى حلف «الناتو» الذى تقوده الولايات المتحدة.
بعد تفكك الاتحاد السوفيتى عام (1991) لم يعد هناك داع موضوعيا لبقاء حلف «الناتو»، غير أنه بقى ولم تتوقف محاولات البحث عن عدو بديل.
فى بعض الأوقات بدا أن العدو الجديد هو ما أطلق عليه «الإرهاب الإسلامى».
وفى عام (2014) عادت روسيا إلى صدارة الأعداء، بعد ضم جزيرة «القرم»، دون قطع «احتمال إقامة علاقات بناءة عندما تجعل تصرفات روسيا ذلك ممكنا»ــ حسب بيان صدر عن القمة الأخيرة.
فى هذه القمة أضيفت الصين ــ بضغط أمريكى ــ لأول مرة إلى قامة الأعداء، «بما تمثله من تحدٍ استراتيجى متزايد» دون أن يكون هناك توافق حقيقى على مثل هذا الخيار.
لم تكن مصادفة أن يصف الرئيس الفرنسى فى حوار مع مجلة «الإيكونوميست» حلف «الناتو» بأنه «ميت سريريا»، على خلفية أن بعض أعضائه يتخذون قرارات انفرادية دون تشاور، قاصدا العملية العسكرية التركية فى شمال شرق سوريا، واستيراد أنقرة منظومة صواريخ «إس 400» من العدو الروسى المفترض.
كانت تلك رسائل مقصودة للقمة قبل أن تبدأ.
ولم تكن مصادفة حجم الإهانات غير المسبوقة التى وجهها الرئيس التركى «رجب طيب أردوغان» لنظيره الفرنسى قبل قمة «الناتو»، فهو مبتدئ ويفتقد إلى الخبرة فى محاربة الإرهاب، كما أنه هو نفسه فى حالة «موت سريرى».
رغم دوافعه الخاصة فى نقد السياسة الفرنسية، التى تناهض عملياته العسكرية فى شمال شرق سوريا باسم مكافحة الإرهاب الكردستانى، إلا أن «أردوغان» تحدث باسم قوة أكبر منه حرضته على مثل هذا السلوك الخشن.
الرئيس الأمريكى تبنى نفس الانتقادات، بعبارات أخف نسبيا؛ حيث وصف تصريحات «ماكرون» بأنها «بغيضة»، رغم أنه هو نفسه صرح فى وقت سابق بأن الحلف «عفى عليه الزمن».
كان مثيرا للالتفات الترحيب المبالغ به بـ«أردوغان» على حساب «ماكرون».
تكفى نظرة عابرة على الصور التذكارية وترتيب الجلوس والوقوف فيها، التى التقطت فى اختتام القمة، أو حفل الاستقبال بقصر بكنجهام، لتؤكد أن هناك ترتيبا مقصودا يتجاوز الاعتبارات البروتوكولية، التى جرى خرقها فى القصر الملكى بجلوس «بوريس جونسون» بجوار الملكة.
فى مثل هذه الأجواء كان مقطع الفيديو كاشفا لحجم التهافت الاستراتيجى فى بنية الحلف وتوجهاته.
لم تكن القضية ردات فعل «ترامب» على مقطع الفيديو؛ حيث وصف «ترودو» بأنه «ذو وجهين»، وألغى مؤتمرا صحفيا مقررا مغادرا إلى واشنطن، ولا محاولة تنصل القيادات التى لم تسمع أصواتها فى مقطع الفيديو من الحدث كله.
بصورة رمزية عبر مقطع الفيديو عن أزمة حلف «الناتو»، الذى لم يعد يعرف لنفسه تعريفا متفقا عليه بين أعضائه ولا هدفا يجمعهم.
مكان المؤتمر نفسه دال على الأزمة، فلندن تتأهب للخروج من الاتحاد الأوروبى، و«ترامب» يدعم هذه الخطوة التى ينظر إليها كإضعاف للمنظومة الأوروبية وموعده يستبق الانتخابات العامة البريطانية بأيام.
من المفارقات أن رئيسة الوزراء السابقة «تريزا ماى» هى التى دعت إلى تلك القمة الاحتفالية بمرور سبعين سنة على تأسيسه غير أن الذى استفاد سياسيا خصمها «جونسون».
بصورة أو أخرى جرى تجاوز «ابتزاز أردوغان» برفض خطط دفاع «الناتو» ما لم تحدث تفاهمات بشأن عمليته العسكرية فى سوريا، والتقليل من شأن انتقادات «ماكرون» المأزوم فى وضعه الداخلى بقوة الإضرابات العامة.
هكذا بدا ممكنا ما دعا إليه رئيس الوزراء البريطانى من مباحثات بين ألمانيا وفرنسا وبريطانيا وتركيا بعد أن علمت الدول الأوروبية بـ(الضغوط الهائلة)، التى تتعرض لها من تهديد إرهابى حقيقى يمثله حزب العمال الكردستانى.
ولم تكن مصادفة دعوته إلى لقاء فى تركيا يضم الدول الأربع، فهو مرتب لصالح ما تطلبه الإدارة الأمريكية من أدوار وترتيبات فى الشرق الأوسط تتولاها أنقرة بالنيابة.
بقدر حجم الشروخ والتصدعات والإملاءات غير المقنعة فى بنية وتوجهات حلف الناتو يتبدى مقطع الفيديو الساخر، كما لو أنه إعلان عن قرب انهياره من داخله.