المشير والمرشد.. للسلطة حسابات أخرى
عبد الله السناوي
آخر تحديث:
الإثنين 9 يناير 2012 - 9:25 ص
بتوقيت القاهرة
أمام وضع جديد ومختلف تقترب مواعيده بانعقاد أولى جلسات مجلس الشعب المنتخب يوم (٢٣) يناير الحالى تتبدى فى المشهد السياسى حسابات أخرى فى إدارة المرحلة الانتقالية وملفاتها المعلقة والملغمة.
يقف فى صدارة المشهد رجلان من موقعين مختلفين.
أولهما، المشير «حسين طنطاوى» ولديه أوراق قوة لا تتوافر لغيره، فهو يقف على رأس المؤسسة العسكرية لنحو عشرين سنة متصلة، وآلت إليه سلطة إدارة البلاد بعد ثورة يناير، ويهيمن بمقتضى هذه السلطة على المؤسسة الأمنية، وتدين له الحكومة بالولاء، فهو الذى يعينها ويعزلها، ويملك تفويض رئيسها صلاحيات رئيس الجمهورية، ويملك عزله بقرار شفهى.. والأهم من ذلك كله أن كلمته باعتبارات الانضباط العسكرى وقواعد الأقدمية لا ترد.. لا أحد ينازعه سلطته داخل المجلس العسكرى.. ومن هنا فإن مسئوليته كاملة عن تعثر وارتباك المرحلة الانتقالية، فضلا عن مسئوليته بحكم موقعه وصلاحياته عن تدهور سمعة المؤسسة العسكرية بصورة فادحة فى الشهور الأخيرة بعد صدامات «ماسبيرو» وشارعى «محمد محمود» و«مجلس الشعب».. وسؤاله الشاغل، واحتفالات الثورة بعيدها الأول على الأبواب، واستحقاق الشراكة مع مجلس شعب أغلبيته إسلامية يداهمه: كيف يدير أوراق القوة التى لديه فى مسائل الدستور ورئاسة الدولة ووضع القوات المسلحة؟.. مضاف إليه سؤال شاغل آخر، عاجل وملح: كيف يمكن قبل احتفالات (٢٥) يناير تصحيح الصورة السلبية التى علقت بالمؤسسة العسكرية ومجلسها الأعلى وبه شخصيا؟.. وهو سؤال إجابته فى السياسة والثورة لا فى الإعلام والدعاية.
وثانيهما، المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين الدكتور «محمد بديع»، وله السمع والطاعة بحكم تقاليد جماعة الإخوان المسلمين ولوائحها. دعته أقداره أن يصعد إلى موقعه على رأس الجماعة الإسلامية الأكبر والأهم والأكثر تنظيما قبل فترة وجيزة من الثورة. لم يخطر بباله أن تحصد جماعته جوائز السلطة بعد ثورة كانت آخر من شارك فيها وأول من خرج منها.. وسؤاله الشاغل الآن، وقد حازت الجماعة أغلبية البرلمان: كيف يمكن أن يتقدم للسلطة العليا بحذر عين على العسكرى ووسائل القوة لديه وعين أخرى على الشارع وقواه السياسية بما يمنع الوقوع فى مطبات مفاجئة قد تأخذ النصر ونشوته إلى ابتلاءات جديدة؟.. وهو سؤال إجابته فى السياسة والثورة لا فى الوعود المراوغة.
بحكم الإعلان الدستورى فإننا أمام تقاسم سلطة أولى وموقوت بين العسكرى والإخوانى، للأول السلطة التنفيذية، وللثانى السلطة التشريعية. ولكن مشكلة هذا التقاسم الموقوت للسلطة أنه يفتقر إلى غطاء من شرعية دستورية، فلا يوجد دستور أصلا ينظم العلاقة بين السلطتين التنفيذية والتشريعية، كما أنه يفتقر فى الوقت ذاته إلى غطاء من شرعية ثورية، والشباب الغاضب، الذى يعود إلى التحرير من وقت لآخر ومن موقعة دموية لموقعة أخرى، يعتقد أن جوائز الثورة يجرى تقاسمها بعيدا عن الذين دفعوا فواتير دم لإنجاحها، ولغير الأهداف التى قامت من أجلها.
فى تقاسم السلطة الموقوت، وعند تقاطع الإرادات والمصالح، هناك حقائق أساسية يصعب تجاهلها أو القفز فوقها، وسوف تحكم إلى حد بعيد حركة التفاعلات والأحداث فيما تبقى من مرحلة انتقالية. ومن بين هذه الحقائق أن أحدا ليس بوسعه أن يحكم مصر بأوضاعها الاقتصادية المأزومة والسياسية المتفجرة، والاستراتيجية الملغومة، منفردا أو مدعيا أنه وحده ممثل العناية الإلهية، وليس بوسع أحد فى الوقت ذاته أن يتجاهل أن هناك ثورة قامت ويصعب تجاهل أهدافها. وهذه الحقيقة تدعو بذاتها للتوافق والتعقل وتجنب الصدامات العنيفة بين القوى السياسية المختلفة.. وأخطر الحقائق أن المؤسسة العسكرية لن تخرج من المشهد السياسى مع انتهاء المرحلة الانتقالية. هذه الحقيقة تتجاوز تعهدات العسكرى بالعودة إلى الثكنات فى (٣٠) يونيو المقبل بعد انتخاب رئيس الجمهورية الجديد.. القضية ليست فى النوايا والتعهدات، فسوف يخرج العسكرى فعلا من السلطة المباشرة، ولكن يصعب تصور أن يسلم الدولة لرئاسة من خارجه، أو على غير اتفاق معه، يعطيها التحية العسكرية، ويفوضها فى الوقت ذاته بتقرير مصيره.. العسكرى يدرك أنه فى موقع قوة، وأن هذه القوة تعطيه فرصة التصحيح والمراجعة والتصرف بشكل مختلف. وهذه الحقيقة دعت قيادات الإخوان المسلمين، رغم تدهور سمعة وشعبية المجلس العسكرى بصورة أساءت إلى المؤسسة العسكرية كلها، إلى الحذر البالغ فى انتقاد العسكرى، وإصدار بيانات تأييد ودعم لمواقف يصعب تأييدها ودعمها، أو غض الطرف عن أخطاء وخطايا كبرى سالت بسببها دماء وسقط شهداء وانتهكت أعراض وعريت فتيات وسيدات. وهو حذر يعود فى جانب منه إلى خبرة الإخوان المسلمين فى صدامات سابقة مع الجيش دفعوا أثمانها غاليا. ويعود فى جانب آخر إلى تلمس أخطار عدم التوافق مع الجيش عند استلام السلطة.
والمعنى أن أية قوة سياسية، بغض النظر عن توجهاتها وأهدافها، وهى تتقدم لتسلم السلطة وتشكيل الحكومة بعد انتهاء المرحلة الانتقالية، لابد أن تحظى بدعم كامل لا ظلال عليه ولاشك فيه من مؤسسات القوة فى الدولة.. فى المقدمة المؤسسة العسكرية، وهى سند الشرعية فى أى نظام ديمقراطى، وتتبعها المؤسسة الأمنية. فى الحالة المصرية فإن الثانية سوف تتبع الأولى تحت أى ظرف، خاصة أن لديها مواريث عداء مع الجماعة التى تتطلع لتسلم السلطة..
الحكومات بلا سلطة قاهرة تتبع تعليماتها وتنفذ قراراتها تبدو كخيالات مآته تتلاعب بها الرياح فى يوم عاصف.
المشير يدرك تلك الحقيقة، حقيقة أوراق القوة.. والمرشد يدركها بالقدر نفسه. والثانى، ربما يغالى أحيانا فى قوته التى قال إنها تفوق رئيس الجمهورية، إلا أنه عمليا استبعد بصورة نهائية دعم أى مرشح إسلامى للرئاسة، وترك الملف للتوافق مع العسكرى: أن يكون المرشح هو المشير نفسه، أو من يشير به المشير.
كلاهما المشير والمرشد فى حاجة إلى الآخر. الأول، يريد غطاء سياسيا، أو قاعدة سلطة لها أغلبيتها فى البرلمان، ولها نفوذها فى الشارع، يجرى التوافق معها على الملفات المعلقة وتقاسم السلطة مستقبلا.. والثانى، يريد دعم مؤسسات القوة لصعوده السياسى وتسلم جماعته قيادة الحكومة. الاحتياجات المتبادلة تزكى فكرة التوافقات، وتفتح المجال لتفاهمات حول الدستور وما ينص عليه عن طبيعة الدولة والحريات العامة ودور القوات المسلحة.. وتتمدد التفاهمات بالطبيعة إلى الحكومة الائتلافية ورئاسة الدولة.
فى الأيام المقبلة سوف تتضح حدود التفاهمات من طبيعة التصرفات. كيف سيدير حزب «الحرية والعدالة» أغلبيته البرلمانية فى اختيار رئيس المجلس ووكيليه ورؤساء لجانه؟.. وهل سيضع اعتبارات الكفاءة فى اختياراته أم حسابات الولاء والتزاحم فى الطابور لتقبيل يد المرشد؟
هذا اختبار جوهرى لمرشد صعد فى ظروف صراعات داخلية سبقت الثورة مباشرة، أطيح خلالها بقيادات تاريخية، من بينهم النائب الأول للمرشد السابق الدكتور «محمد حبيب»، والدكتور «عبدالمنعم أبوالفتوح»، الذى كان له الفضل الأول فى التأسيس الثانى للجماعة مطلع السبعينيات.
خلفيه المرشد الفكرية وانتماؤه للمدرسة القطبية تشكك فى أهليته لقيادة الجماعة إلى تاريخ جديد، وابتلاء مختلف، وهو هنا ابتلاء السلطة، والسلطة تجىء بانتخابات أعقبت ثورة مدنية حديثة تقدمها الشباب، وبرزت فيها المرأة، وشاركت فيها قطاعات شعبية واسعة، وكان من أبرز أهدافها التحول إلى مجتمع ديمقراطى حر، وهى أهداف لا يبدى الإخوان إخلاصا حقيقيا لها، فضلا عن غياب خبرة الدولة وثقافتها، ومن المخاوف الحقيقية التى قد تودى بسمعة الإخوان، وتلحق أذى بالغا بجماعتهم، أن يجرى التحرش بحرية الفكر والإبداع، أو الانقضاض على الثقافة المصرية، ركيزة القوة الناعمة لمصر فى محيطها العربى، أو أن تسود عقلية العشيرة والقبيلة فوق اعتبارات الدولة الحديثة وحقائقها.
ومن الاختبارات التى تداهم المرشد طبيعة ترتيب أولويات التشريع، والعلاقة مع حكومة الجنزورى صدام أم مهادنة. بمنطق الصفقات التى اعتادها الإخوان فى العقود الأخيرة الأرجح المهادنة، لكن بمصاحبة شىء من الصدام المحسوب حتى لا يفسد الصدام الخشن تفاهمات الكواليس مع العسكرى.
الأغلب فى حسابات السلطة وطرق الوصول إليها أن يسعى مكتب الإرشاد وحزبه إلى توسيع تحالفاته السياسية باستعادة حضور حزب الوفد، وربما يدخل حزب المصريين الأحرار إلى هذا التحالف. كان ذلك مستبعدا قبل الانتخابات النيابية، ولكن للسلطة حسابات أخرى.
قبل الانتخابات طلبت قيادة عسكرية كبيرة من «نجيب ساويرس» الانضمام للتحالف الذى يقوده حزب الإخوان، وضغطت عليه، لكنه اعتذر عن قبول مثل هذه الفكرة. الآن الفكرة ممكنة بحسابات الحقائب الوزارية.
«هناك ما يجمعنا».. عبارة تبادلها ساويرس ومحمد مرسى رئيس «الحرية والعدالة» أثناء الاجتماعات التحضيرية للمجلس الاستشارى.. وهذا صحيح من ناحية اجتماعية واقتصادية، فالحزبان الإسلامى والليبرالى كلاهما يمينى!
والمعنى أن الحسابات التى رافقت الانتخابات تختلف عن حسابات ممارسة السلطة أو التقدم إليها. طبقا لحسابات ما بعد الانتخابات، والإخوان لهم أغلبية مقاعد البرلمان، فإن السياسة العملية قد تقتضى التخلص من «صداع السلفيين»، أو ألا تحسب تصرفاتهم وتصريحاتهم وأولوياتهم على الجماعة ذات الخبرة الأوسع فى العمل السياسى، وإن افتقدت خبرة الدولة، وتحتاج إلى فسحة وقت لاكتشاف حقائقها.
الأرجح فى ظل حقائق القوة وحسابات السلطة فيها أن تجرى توافقات على شخصية رئيس الجمهورية الجديد.. ورغم أن الانتخابات البرلمانية تختلف فى طبيعتها عن الانتخابات الرئاسية، فإن اعتقاد العسكرى أن التوافق مع الجماعة ضرورى عند حسم ملف رئيس الجمهورية.
هناك ثلاثة خيارات كبرى.. الخيار الأول، أن يجرى اختيار شخصية عسكرية للرئاسة، وهو تفكير يفضى إلى التوافق على المشير رئيسا.. وهو يمانع ولكنه لا يمتنع.. قراره ألا يترشح أحد من المجلس أو باسم المؤسسة العسكرية، ولكنه يفسح مساحة كلام حول هذه المسألة، ويقول فى العادة: «لن أخل بتعهدى بعدم الترشح للرئاسة إلا إذا توافقت القوى السياسية على ذلك». الاحتمال إذن قائم ويستحيل استبعاده ولكنه ليس نهائيا، فهناك عوائق تحول دونه، أهمها وأبرزها وأكثرها تأثيرا الخصومة فى مواقع الصدام مع الأجيال الشابة. إنها الثورة إذن وأجيالها الشابة داخلة فى حسابات تقرير مصير رئاسة الدولة. والخيار الثانى، التوافق على مرشح مدنى من بين المرشحين حاليا للرئاسة يكون له حضوره الشعبى وعنده خبرة إدارة الدولة ومستعد للعمل تحت سقف المعاهدة المصرية الإسرائيلية.
مبعوثو المرشد للحوار مع الأمريكيين عبر قنوات سرية أكدوا التزام الجماعة بالمعاهدة. والعسكرى بحواراته العلنية والسرية مع البنتاجون والإدارة الأمريكية ضامن لذات التوجه.
الاسم الأبرز فى هذا الخيار «عمرو موسى»، وقد نجح فى الأسابيع الأخيرة فى إذابة الجليد مع العسكرى، بينما تعقدت علاقات نظيره الدكتور «محمد البرادعى»، وأبعد مرشحان آخران عن ساحة التفاعلات بين العسكرى والإخوانى وهما الدكتور «عبدالمنعم أبوالفتوح» و«حمدين صباحى»، وكلاهما من جيل واحد، والأول خلف الثانى على مقعد رئيس اتحاد طلاب جامعة القاهرة فى النصف الثانى من السبعينيات.
والخيار الثالث، أن يجرى التوافق على جواد أسود من خارج مضمار السباق الحالى، وأبرز اسمين داخل التداول: الدكتور «نبيل العربى» أمين عام الجامعة العربية الحالى و«منصور حسن» رئيس المجلس الاستشارى.
هناك إذن أربعة أسماء مطروحة للتداول والتوافق حولها: المشير وعمرو موسى ونبيل العربى ومنصور حسن. وهذه كلها حسابات أولية فى لعبة سوف تطول مراحلها وتتصاعد حلقاتها، وقد تدخل عليها جياد جديدة.