إزاحة الهيمنة الغربية عن علم المصريات
ياسمين الشاذلي
آخر تحديث:
الثلاثاء 9 يناير 2024 - 7:50 م
بتوقيت القاهرة
من أهم القضايا هذه الأيام على مستوى علم المصريات ما يسمى بـ«إزاحة الاستعمار» ((decolonization. فهناك تشجيع غير مسبوق على كتابة الأبحاث التى تتناول تاريخ هذا العلم الذى نشأ فى كنف الاستعمار وكيف قام الغرب بمحاربة دخول المصريين هذا المجال وتهميش إسهاماتهم، كما تقوم المتاحف فى الغرب بإعادة النظر فى عرض المجموعات المصرية القديمة وتغيير طريقة كتابة البطاقات المعلوماتية الخاصة بها لتروى دور الاستعمار فى خروج هذه القطع إلى الغرب.
ويتواكب هذا مع المجهودات الرائعة بافتتاح متاحف جديدة فى مصر وإعادة عرض المجموعات فى المتاحف العريقة كالمتحف المصرى فى التحرير. ولذلك وجب اغتنام الفرصة بوضع إطار معرفى مؤثر لا يعتمد على إعادة انتاج الرواية الغربية. هذا المقال به مقترحات لدور فعال يمكن أن يلعبه المصريون لإنهاء الهيمنة الغربية فى مجال علم المصريات.
ما هو تعريف «إزاحة الاستعمار» فى علم المصريات؟
تطور علم المصريات فى القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين بالتزامن مع الوجود الإمبراطورى المتزايد فى مصر من قبل القوى الإمبريالية الأوروبية، مما كان له تأثيرا على كيفية ممارسة هذا العلم الذى هيمن عليه الغرب بمباركة حكام البلاد حينذاك فأصبح يكتب التاريخ المصرى القديم من وجهة نظر غربية. إزاحة الاستعمار فى مجال علم المصريات هو إعادة النظر فى طريقة التعامل مع هذا العلم وللأسف فالغرب هو الذى يستأثر بهذا النوع من المناقشات. ومن الموضوعات التى تطرح دائما هى تشجيع أو إلزام المتخصصين فى هذا المجال بدراسة اللغة العربية وأن تقبل الدوريات الدولية مقالات باللغة العربية كى يستطيع الأكاديميون المصريين المشاركة بمقالاتهم، وأنا أرى أن هذا فى حد ذاته ينال من الأكاديمى المصرى، فالأكاديمى الجاد الذى يتخصص فى علم المصريات فى الغرب مطالب بإجادة اللغة الإنجليزية والفرنسية والألمانية فلماذا نتوقع أقل من هذا من المصريين؟ أنا مع إلزام من يريد التخصص فى علم المصريات بتعلم اللغة العربية لأن إجادة اللغة العربية ضرورة لفهم الحضارة المصرية التى ورثت من مصر القديمة الكثير.
إبراز إسهامات المصريين والعرب
تعود بداية علم المصريات وتصنيفه كعلم من علوم الإنسانيات إلى فك شامبليون لشفرة الكتابة الهيروغليفية، ولكن عندما يتم سرد تاريخ المساهمات السابقة على هذا الكشف والتى مهدت الطريق لشامبليون يتم استبعاد جميع العرب والمسلمين بحجة أنهم كانوا ينفرون من الحضارة المصرية القديمة لأنها حضارة وثنية.
لقد صدرت دراسة قيمة جدا تصحح هذا المفهوم وهو كتاب الدكتور عكاشة الدالى «الألفية المفقودة. مصر القديمة فى الكتابات العربية فى العصور الوسطى» (Egyptology: The Missing MillenniumAncient Egypt in Medieval Arabic Writings) ويبدأ الكتاب بكلمات تريجر التالية من كتابه «تاريخ الفكر الأثرى» (A History of Archaeological Thought) : «فى أواخر القرن الثامن عشر لم يعرف أى شىء تقريبا عن الحضارة القديمة لمصر والشرق الأدنى باستثناء ما سجله الكتاب المقدس والإغريق والرومان القدماء». يصحح كتاب الدالى هذا المفهوم الخاطئ من خلال تسليط الضوء على ما وصفه بـ«فترة مهملة لألف عام فى تاريخ علم المصريات، منذ الفتح الإسلامى لمصر فى القرن السابع الميلادى حتى الفتح العثمانى فى القرن السادس عشر». يذكر الدالى فى المقدمة أن الهدف الثالث من كتابه، بالإضافة إلى تسليط الضوء على اهتمام العرب فى العصور الوسطى بمصر القديمة ومحاولتهم دراسة وتفسير البقايا المادية لهذه الحضارة القديمة ومدى صلة هذه المادة بالدراسات الحديثة، أراد «تشجيع المزيد من الدراسة للمصادر العربية المتوفرة فى العصور الوسطى». أحد أسباب عدم دراسة هذه المصادر بالقدر الكافى هو أنها تتطلب علماء على دراية بالمخطوطات العربية فى العصور الوسطى بالإضافة إلى معرفتهم بتاريخ وحضارة مصر القديمة ليكونوا قادرين على تفسير المحتوى وصلته بمجال علم المصريات. ورغم هذه التحديات فمن الضرورى مواصلة عمل الدالى وأفضل طريقة للقيام بذلك هى من خلال نهج متعدد التخصصات، مع فرق تضم متخصصين فى المخطوطات العربية فى العصور الوسطى وعلم المصريات.
لا نحتاج فقط إلى تسليط الضوء على مساهمات العلماء العرب فى العصور الوسطى ولكن يجب أيضا طرح مساهمات المصريين المعاصرين. فى عام 1985 نشر دونالد م. ريد مقالا بعنوان «علم المصريات المحلى: إنهاء استعمار المهنة؟» ويحاول فيه تتبع تطور علم المصريات بين المصريين مع توضيح سبب تطوره بشكل أبطأ من الغرب. بدأ مع رفاعة الطهطاوى نحو عام 1830 ثم تابع ليشرح كيف أعاق علماء المصريات الغربيون الجهود المصرية لتخريج علماء المصريات بين سبعينيات القرن التاسع عشر وعشرينيات القرن الماضى. يروى كيف بدأ «إزاحة استعمار» علم المصريات فى عشرينيات القرن الماضى وكيف تمت الإطاحة بآخر مدير فرنسى لمصلحة الآثار مع النظام الملكى فى عام 1952. يمكن اعتبار هذا المقال عملا رائدا فى «إزاحة الاستعمار» فى علم المصريات.
هناك العديد من الدراسات العلمية التى تروى إنجازات علماء المصريات المصريين ولكن لا يزال هناك الكثير مما يجب عمله. لا تزال أرشيفات علماء المصريات الرواد المصريين غير مدروسة إلى حد كبير فتحتفظ الجامعة الأمريكية بالقاهرة بأرشيفات أحمد فخرى، وجاب الله على جاب الله، وزكى إسكندر، وعبدالمنعم أبو بكر فيجب أن تدرس وتنشر جميع هذه الأرشيفات. وتحتفظ الجامعة الأمريكية بالقاهرة أيضا بجزء من أرشيف سليم حسن بينما يحتفظ مركز توثيق التراث الحضارى والطبيعى (CULTNAT) بجزء آخر من الأرشيف، والذى يتضمن تقارير الحفريات التى قام بها فى الجيزة وسقارة وأوراق بحثية وتقارير عن مشروع إنقاذ آثار النوبة بالإضافة إلى مخطوطة توثق الطريق الصاعد للملك أوناس. بدأت CULTNAT مشروعا فى عام 2019 لرقمنة هذا الأرشيف ولا يزال هذا المشروع مستمرا. كما يضم المعهد الألمانى للآثار (DAIK) أرشيف أحمد فخرى الذى يعمل المعهد حاليا على رقمنته وإتاحته للباحثين، علاوة على ذلك يضم المقر الرئيسى لمعهد دراسة الثقافات القديمة بجامعة شيكاغو (المعهد الشرقى لجامعة شيكاغو سابقا) فى الأقصر أرشيف لبيب حبشى والذى يتضمن مراسلات مهنية وشخصية بين حبشى والعديد من المؤسسات والشخصيات العلمية الدولية.
لم تقتصر دراسة الاسهامات المصرية فى علم المصريات على العلماء فحسب ففى السنوات الأخيرة كانت هناك جهود لتسليط الضوء على دور رؤساء العمال والعمل اليدوى فى علم الآثار المصرية مثل مشروع بيتر دير مانويليان أستاذ علم المصريات بجامعة هارفارد لدراسة يوميات البعثة المشتركة لجامعة هارفارد ومتحف بوسطن للفنون الجميلة التى كتبها رؤساء عمال من عائلة دراز من مدينة قفط فى مصر والذى يهدف إلى إعادة تقييم دور المصريين فى علم الآثار المصرية. وفى عام 2010 نشر ستيفن كويرك أستاذ علم المصريات بجامعة UCL بلندن عملا هاما يستكشف أرشيف الآثارى البريطانى فليندرز بيترى ويسلط الضوء على مساهمات العمال المصريين فى حفرياته فى مصر بين عامى 1853 و1942. وكانت هذه أمثلة على المساهمات العلمية التى تهدف إلى تسليط الضوء على إسهامات المصريين فى علم المصريات، وعلى المصريين الاهتمام بتجميع ودراسة الأرشيفات المختلفة الموجودة فى المؤسسات المصرية والتى يمكن أن تحتوى على معلومات هامة عن تاريخ علم المصريات ومنها وزارة السياحة والآثار والجامعات وغيرها.
النشر العلمى
مصر بها علماء مصريات على مستوى عال ولكن لا يزال عدد علماء المصريات المصريين الذين ينشرون فى دوريات علمية محكمة ذات جودة عالية صغيرا نسبيا. أحد الأسباب هو أن نظام الترقيات فى الجامعات الوطنية المصرية يعطى أعلى الدرجات للدوريات العلمية ذات عامل تأثير SCOPUS المرتفع وSCOPUS هى قاعدة بيانات لملخصات المقالات العلمية والاستشهادات (citations). وجميع الدوريات العلمية المسجلة على قاعدة بيانات SCOPUS تراجع كل عام لضمان مستوى جودتها ويتم تقييمها وفقا لأربعة أنواع من مقاييس الجودة الرقمية. معظم الدوريات المتخصصة فى علم المصريات الأكثر عراقة وقراءة غير مسجلة فى SCOPUS لأن المحررين يعتبرون SCOPUS قاعدة بيانات تركز بشكل أكبر على العلوم الطبيعية بدلا من العلوم الإنسانية.
تعطى الجامعات الوطنية المصرية أعلى النقاط للمقالات المنشورة فى الدوريات المسجلة على SCOPUS وأغلب هذه الدوريات دوريات محلية غير معروفة دوليا فيقبل الأكاديميون المصريون على النشر فى هذه الدوريات وهذا يعنى أن الكثير من أعمالهم تقرأ محليا بشكل أكبر وتأثيرها الدولى ضئيل. الحل لهذه المشكلة أن يقوم المجلس الأعلى للجامعات بإعادة النظر فى طريقة تقييم الإنتاج العلمى ووضع معايير إضافية تضمن أن عدد النقاط يعكس جودته بشكل أكثر دقة ووصوله للدوائر الدولية بشكل أكبر، كما يجب الترويج للدوريات العلمية المحلية الجيدة لتشجيع الأكاديميين الدوليين على قراءتها والنشر فيها.
المتاحف
ماذا يعنى إزاحة الاستعمار فى المتاحف؟ فى مقالها فى واشنطن بوست بعنوان «إزاحة الاستعمار فى المتحف الأمريكى» تعرفه راشيل هاتسيباناجوس على أنه «عملية تخضع لها المؤسسات لتوسيع وجهات النظر التى تصورها بما يتجاوز منظور المجموعة الثقافية المهيمنة، ولا سيما المستعمرون البيض». ورغم المجهودات الرائعة فى الآونة الأخيرة فإن وجهات النظر التى تقدمها المتاحف المصرية التى تقع على أرض مصر لا تزال إلى حد كبير غير مصرية، فهى لا زالت تحمل إرث نشأتها الاستعمارية. معظم المتخصصين فى علم المتاحف فى مصر مدربون على كتابة سيناريوهات العرض والبطاقات الخاصة بالقطع الأثرية بطرق تعيد إنتاج الرواية الغربية فيجب إعادة النظر فى هذه السيناريوهات، كما ينبغى على المتاحف المصرية أن تسرد تاريخ وحضارة مصر من وجهة نظر مصرية وأن تبرز الاستمرارية بين مصر القديمة والحديثة والتاريخ الاستعمارى لعلم المصريات والمساهمات المصرية فى هذا المجال.
ملاحظات ختامية
يحتوى هذا الطرح على بعض المقترحات للدور الفعال الذى يمكن للعلماء والأكاديميين المصريين القيام به لوضع حد للهيمنة الغربية على علم المصريات على أمل أن يؤدى ذلك إلى مزيد من الحوار والبحث المتعمق. من المهم أن يظل العلماء المصريون على اطلاع على الحوار الدائر حول حالة علم المصريات والمشاركة فيها حتى تؤثر مساهماتهم على الاتجاهات الجديدة التى سيتخذها هذا العلم فى السنوات القادمة.