بين عز ودومة: كل هذا النزيف
عبد الله السناوي
آخر تحديث:
الإثنين 9 فبراير 2015 - 8:10 ص
بتوقيت القاهرة
لا يمكن لمصرى واحد تطلع إلى عصر جديد بعد ثورتين أن يستريح ضميره وهو يطل على مشهدين متناقضين لماض يعلن عن عودته ومستقبل يُودع خلف القضبان.
كأنه فصل فى إحدى مسرحيات «اللا معقول» أن ترى أمامك «أحمد عز» ورجاله يتقدمون إلى البرلمان و«أحمد دومة» ورفاقه فى غياهب السجن المؤبد.
أيا كانت الأخطاء التى ارتكبها «دومة» وجيله فإنها من طبيعة حماسة الثورة واندفاعات العمر، فلا ثورة معقمة فى التاريخ ولا غضب بلا شطط.. بينما ما ارتكبه «عز» يدخل مباشرة فى إفساد الحياة السياسية والاقتصادية التى استدعت الثورة، حتى أن رأس النظام «حسنى مبارك» أطاحه مع لجنة السياسات التى كان يترأسها نجله الأصغر وقيادة الحزب الوطنى كلها قبل إطاحته هو نفسه.
فى لحظات النهاية بدا «عز» عبئا على أية فرصة لبقاء النظام، فهو يرمز أولا لـ«مشروع التوريث» الذى تماهى معه إلى درجة التوءمة مع الوريث المحتمل للنظام الجمهورى، ويرمز ثانيا لإفساد الحياة السياسية بالتزوير الفاحش للانتخابات البرلمانية عام (2010)، ويرمز ثالثا لخيارات اقتصادية أفضت إلى توحش مؤسسة الفساد وإهدار المقدرات العامة على نحو لا مثيل له وزواج السلطة والثروة وحماية الاحتكارات وإخضاع الحكومة لمصالح رجال الأعمال المتنفذين.
عودته السياسية الآن تضرب فى الحاضر وتهدده فى شرعيته.
فترشحه لمجلس النواب إهانة لا تحتمل لأية تضحية بذلت وتحد سافر للدماء التى سالت من أجل الانتقال إلى عصر جديد يؤسس لمجتمع ديمقراطى حر تتحقق فيه العدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية معا.
وعودته تومئ إلى نزيف سياسى خطير من سمعة الحاضر وشرعيته.
وفى أحكام المؤبد على «دومة» ورفاقه إشارة أخرى لنزيف مماثل تتعدى الحيثيات القضائية إلى آثار سياسية تعمق أزمة الدولة مع شبابها وتقوض أية رهانات على خفض مستوى الاحتقانات.
فى الإشارتين معا تهديد مباشر للشرعية الدستورية التى تنص وثيقتها على أن «ثورة 25 يناير 30 يونيو فريدة بين الثورات الكبرى فى تاريخ الإنسانية بكثافة المشاركة الشعبية التى قدرت بعشرات الملايين وبدور بارز لشباب متطلع لمستقبل مشرق».
عن أى دستور نتحدث؟
وعن أى ثورة فريدة نتباهى؟
وأى مستقبل هو مشرق؟
بعبارة صريحة فإن عودة «عز» تنذر بتداعيات لا يحتملها أحد فى مصر وصلافة التحدى مقدمة لصدامات مروعة سوف تنتقل باليقين إلى الشوارع الملتهبة إن لم يكن اليوم فغدا.
العودة نفسها تضفى شرعية على جماعة «الإخوان المسلمين» تعوزها بفداحة وتشكك بعمق فى المؤسسة النيابية وتنال من اعتبارها قبل أن تبدأ جلستها الأولى.
بالضبط كما حدث فى برلمان (٢٠١٢) الذى هيمنت عليه الجماعة وأنصارها، ففى الجلسة الأولى فقد اعتباره بعدم احترام القسم الدستورى.
والمعنى أن ترشحه إنذار مبكر بانهيار أية شرعية نيابية وأية شرعية دستورية.
وإذا كان هو يراهن على نفوذ المال السياسى الذى لم يحاسب على مصادره فإن عودته تستفز ضرورات الحساب، ولا تملك أى سلطة فى نهاية الأمر غير أن تضعه فى السجن من جديد.
هذه حقائق السلطة هنا أو فى أى مكان آخر له نفس الظروف.
بعبارة صريحة أخرى فإن عودة الماضى مشروع أزمة شرعية لا يصح أن يفسح المجال أمامها والحسم المبكر لا بديل عنه، فمصر لم تعد تحتمل اضطرابا جديدا.
الأخطر فى «اللا معقول السياسى» أن عودة الماضى تصور «يونيو» على أنها «ثورة مضادة»، وهذه إهانة بالغة للشعب المصرى وعشرات ملايينه التى خرجت لمنع الاحتراب الأهلى لا لعودة الماضى ومعه مشروع احتراب أهلى جديد.
بذات القدر من الخطر السياسى فإن تعطيل حل أزمة الدولة مع شبابها يفضى إلى ذات النتائج الكارثية ويدفع البلد إلى حائط مسدود.
فى الإشارتين عن «عز» و«دومة» كأن لا ثورة قامت ولا تضحيات بذلت ولا أمل فى المستقبل.
وهذه مقدمة أزمة فى الضمير العام منذرة وفاصلة إن لم تتدخل السياسة وتحسم خياراتها.
فما معنى أن تثور مصر مرتين فى أقل من ثلاث سنوات، ضحت وتحملت دون أن تتبدى أمامها ثمار التضحيات ولا تحقق أى من أهداف الثورة.
فى «يناير» اختطفت الجماعة الأكثر تنظيما جوائزها وتنكرت لجميع وعودها واصطدمت بعنف بالغ مع الطلائع الشابة التى تصدرت مشاهد الميدان المبهرة فاتحة الطرق المسدودة للتغيير الذى لم يحدث، فقد أطيح رأس النظام وبقى بنيانه.
وكان ذلك هو الإجهاض الأول للثورة.
وفى «يونيو» نهضت مصر بقواها الحية لتصحيح ما اختل بفداحة وتصويب ما كاد أن يتحول إلى حرب أهلية، وكانت الطلائع الشابة مرة أخرى فى صدارة المشهد التاريخى.
غير أن الماضى الذى أسقطه شعبه تصور أن «يونيو» ثورته هو وجوائزها تعود إليه وحده وأن الأبواب مفتوحة أمامه لتصفية الحساب مع «يناير» والسطو على «يونيو» كما سطت الجماعة على «يناير».
وهذا هو الإجهاض الثانى للثورة.
فى عودة الماضى نسخ لكل شىء له قيمة فى هذا البلد وسحب على المكشوف من رصيد الحاضر.
فى ترشح «عز» تحد للنظام الجديد، فقد تلقى رسائل رئاسية تطالبه بأن يلزم بيته وأعماله وألا يحاول دخول الميدان السياسى مرة أخرى، فما معنى خطوته إلا أن يكون مستهينا بما وصله ومستقويا برجال الأعمال المتنفذين، الذين خذلوا أية رهانات عليهم فى صندوق «تحيا مصر»، ومعتقدا أن مؤسسة الفساد أقوى من أية مؤسسة أخرى فى هذا البلد.
الكلمة للرئيس قبل أى أحد آخر، فعليه أن يؤكد بالحسم الضرورى أن هناك رئيسا واحدا للبلاد وأن الماضى لن يعود كما أكد عشرات المرات.
وهذه مسألة انحيازات كبرى آن وقت إعلانها وأى تأخر إضافى يعمق فجوات يجب أن تضيق.
فوق ذلك كله فإن ترشح «عز» دعوة صريحة للإرهاب أن يتمدد، فلا يمكن لرأى عام مصدوم وشبه يائس أن ينهض وراء جيشه وأمنه لدحر الجماعات التكفيرية وهو يرى تضحياته تذهب سدى ووجوه الماضى تعود وتتحدث بسخرية عن أن «مصر بلد يستحق المجد»، كأن «عز» يقصد أن بلدا لا يعرف قيمة تضحياته ولا معنى ثورته يستحق شيئا آخر لا يوصف بكلام.
المثير للالتفات أنه يحاول توظيف «كراهية الإخوان» لتبرير حضوره من جديد على المسرح السياسى مدعيا أن الماضى حاول بقدر ما يستطيع أن يمنع سقوط مصر فى فخ الجماعة، رغم أن نظام «مبارك» بتعبير الرئيس «السيسى» نفسه احتضن الإخوان ومكنهم من المجتمع قبل أن يتمكنوا من السلطة وأنه يستحق الحساب على هذه الخطيئة السياسية.
مشاهد «اللا معقول» أقرب إلى نزيف متصل فى الرهانات الكبرى يأخذ من المستقبل قضيته، وهذا مؤشر خطير على تدهور محتمل فى الثقة العامة بلحظة حرب يموت فيها الرجال على الجبهة الأمامية ويروع المواطنون فى الأحياء والشوارع.
وهذا النزيف يفضى إلى استنزاف الشرعية ويسحب أى غطاء أخلاقى وسياسى عن أية جهود تبذل لبسط الأمن أو تعافى الاقتصاد.
هذه لحظة الحسم التى إن تأخرت فإننا داخلون لا محالة فى الحائط المسدود.