الإسلاميون وأوروبا.. الربيع العربى فى حوارات روما
سامح فوزي
آخر تحديث:
السبت 10 مارس 2012 - 8:00 ص
بتوقيت القاهرة
بينما كان المناخ متربا وممطرا فى القاهرة، كان على العكس فى «روما» دافئا صافيا. اكتظت قاعة جمعية «سانت إيجيديو» بأكثر من مائة مشارك من باحثين وسياسيين ودبلوماسيين وإعلاميين، ليس فقط من إيطاليا ولكن من دول أوروبية أخرى فى ندوة امتدت لنحو اثنتى عشرة ساعة. المشاركون العرب كانوا كثرا: راشد الغنوشى، محمد السماك، طارق مترى، الدكتور عبدالرحمن البر، محمد السليمانى وآخرون. بعض الحوارات شهدت سخونة، وبعضها مر هادئا دون نقاش حاد. تقاطعت خطوط التماس، ليس فقط بين أوروبا المترقبة مقابل العالم العربى المتغير، أو المسيحيين فى حوارهم مع المسلمين، ولكن أيضا المذهبية ما بين شيعة وسنة.
(1)
يفتخر «راشد الغنوشى» بالتجربة التونسية، فهى فى رأيه تقدم النموذج لائتلاف حزب إسلامى هو حزب النهضة مع حزبين علمانيين هما «حزب المؤتمر من أجل الجمهورية» و«حزب التكتل الديمقراطى من أجل العمل والحريات»، الذى يمكن أن يُحتذى دون خوف من انفراد الإسلاميين بالحكم فى دول الربيع العربى. سار على الدرب نفسه «عبدالرحمن البر» ــ عضو مكتب الإرشاد للإخوان المسلمين- الذى اعتبر «التقية» كذبا، لا يقره، والاختيار الشعبى يساند التيار الإسلامى، والتوترات الدينية بين المسلمين والمسيحيين من صنيعة النظام السابق، فالأقباط لا يخشون الإخوان، ولا يحمل الإخوان أية مشاعر سلبية تجاه الأقباط. هذه الصورة، التى حاول صاحباها وهما من المحسوبين على «الوسطية الإسلامية» تقديمها كان هناك من يناهضها من واقع التجربة العراقية، التى حملت مخاوف من «النموذج السلفى» غير الحداثى وفق «جواد الخوئى»، أو تغيير طبيعة الحياة فى بعض الأحياء التونسية التى يسيطر عليها السلفيون مثلما ذكر «محمد كريشان»، وغرد فى نفس السرب «أنور هدية» محذرا من مخاطر محدقة بالمسيحيين مثلما حدث بالعراق. التفجيرات التى طالت المسيحيين والكنائس فى العراق، فى رأى «محمد السليمانى» طالت مسلمين أيضا على نحو أكثر اتساعا وإيلاما، فالآلاف قتلوا، وعشرات المساجد تعرضت هى الأخرى لتفجيرات. ويأتى الحديث عن دولة «العدل والانصاف» أو ما يمكن أن نطلق عليه «دولة القانون» مساحة وسط تلتقى عندها الأطراف المتطلعة للدولة الحديثة، طرحها «طارق مترى»، وكاتب هذه السطور مستلهما «وثيقة الأزهر» التى ركزت على مفاهيم الحرية والمساواة والعدل فى العلاقة بين كل المواطنين بصرف النظر عن معتقداتهم ومشاربهم.
(2)
نقل «ماسيو داليما» ــ رئيس وزراء إيطاليا الأسبق ــ الحديث إلى أفق مختلف. ذكر أن علاقات أوروبا بالنخب غير الديمقراطية فى العالم العربى كانت «وسيلة لتعزيز مصالح أفراد»، وإن الربيع العربى «له بعد تاريخى سوف يتجاوز الدول التى حدث بها». وقد آن الأوان بالنسبة لأوروبا أن تغير نظرتها للإسلام السياسى، فقد «عرفت إيطاليا بعد الفاشية تجربة الحزب الديمقراطى المسيحى الذى تسلم الحكم بها لفترة طويلة»، والتحولات التى تهز العالم العربى «ليست معادية للغرب، يشارك فيها شباب جمعتهم القيم المشتركة مع أوروبا من خلال استخدام الانترنت والفيس بوك...، وهو ما يمثل قيم الحرية والديمقراطية»، وطرح «داليما» ثلاثة مجالات للتعاون بين أوروبا وجنوب البحر المتوسط هى الشراكة المتساوية «الحضارية» لتعزيز المصالح المشتركة، تنظيم الهجرة، مكافحة الجريمة والإرهاب والحفاظ على الأمن. وبرغم أنه دعا إلى تخطى «عدم الثقة» فى التعامل مع الإسلام السياسى، إلا أن «داليما» أكد أن «الديمقراطيات الناشئة لا تقاس فقط بالأغلبية، ولكن تقاس بمقياس الحفاظ على الحرية الدينية، والحريات الفردية، وحقوق المرأة، وهى قيم متجذرة فى أوروبا، يصعب التخلى عنها». ولم يختلف «فرانكو فرتينى» ــ وزير خارجية إيطاليا السابق ــ مع هذا الطرح، مؤكدا على «الانماء المشترك» فى العلاقة بين أوروبا ودول الربيع العربى بدلا من علاقة «المانح والمتلقى»، ولفت الانتباه إلى أهمية أن تكون هذه الدول «منفتحة على الثقافات، مفتوحة أمام الأديان، متحاشية الاستخدام الخاطئ لمفهوم الشريعة الإسلامية». ودعا «فرتينى» إلى الاستثمار فى الجيل الجديد من الشباب، من خلال المنح الدراسية، حتى تعود إلى العالم العربى قيادات شابة متعلمة وواعية تسهم فى بناء الديمقراطية والتنمية. وطرح «جمبيرو ماسولو»، مسئول الشرق الأوسط بوزارة الخارجية، وهو بالمناسبة من الموظفين المخضرمين فى الدبلوماسية الإيطالية، شبهه البعض بـ«أسامة الباز» فى مصر، مفهوم «تقاسم الديمقراطية» بين الشرق والغرب، فلم تعد الديمقراطية حكرا على الغرب بدخول عصر «الانتخابات التنافسية المفتوحة» فى دول الربيع العربى، وهو ما يستوجب تقوية المؤسسات الديمقراطية فى هذه الدول، واحترام الديمقراطيات الجديدة البازغة فى المنطقة العربية، والتخلى عما سماه «منطق الصفقات»، مؤكدا أن احترام إرادة الشعوب العربية فى الديمقراطية يجب أن يتواكب مع «احترام حقوق الإنسان، والحريات الدينية»، بوصفها من الخطوط الحمراء التى لا تحيد عنها الحكومة الإيطالية إيا كان لونها السياسى.
(3)
أوروبا تريد «شراكة راسخة» مع دول الربيع العربى، ولن يكون ذلك إلا باحترام رغبة شعوبها فى الديمقراطية. فقد ثبت أن الشراكة مع المستبدين لا تنتج الرسوخ الكافى فى العلاقات بين ضفتى البحر المتوسط. ولكن يبدو أن مفهوم «الديمقراطية» ذاته لا يزال غائما. هناك من يرى، وهى التيارات الإسلامية الصاعدة أن الديمقراطية تتمثل فى الاختيار الشعبى عبر صندوق الانتخاب، وهو ما تحترمه أوروبا لكن تراه «إجراءات» تكتمل بمنظومة حقوق وحريات أساسية تحدث عنها المسئولون الإيطاليون الثلاثة باختلاف مواقعهم وخبراتهم، واعتبرها الموظف المخضرم فى الخارجية الإيطالية بمثابة «خط أحمر».
تكشف النقاشات أن أوروبا لم تعد تقلق من الإسلاميين، وترى أنهم ليسوا معادين لها، ولا لمصالحها، وهى على استعداد أن تعيد النظر فى مفهوم الشراكة الذى يجمعها بدول جنوب المتوسط، لكنها تريد أن تؤسس هذه الشراكة على احترام حقوق الإنسان، والحريات الدينية، وحقوق المرأة. وليس مستغربا أن تقف أوروبا ـ بعد تخليها عن «الشك المطلق» فى الإسلاميين- فى «موقف انتظار» ــ على حد تعبير «ماسيو داليما» ــ لا تريد أن تصدر حكما مطلقا منذ البداية على الأحزاب الإسلامية، لا تنزعج لصعودهم، ولا ترى فيه تهديدا لمصالحها. لم يعد «خطاب الفزاعة» يروق لها، لكنها تتبعه، وتراقبه، وترى أن «منطق الصفقات» ولى، واحترام إرادة الشعوب وجب، وفى مقدمة ذلك الانحياز المطلق لمنظومة الحقوق والحريات، فهى مسئولة أمام شعوبها، ولن تسمح أن تكون فى صف حكم لا يحترم القيم الديمقراطية أيا كان شكله.
●●●
أوروبا تتغير مثل العالم العربى. لم تعد كما كانت، الإيمان بالقيم المشتركة مع الشعوب الأخرى يشغلها، والتدين يعود إليها تدريجيا، وكان لافتا ــ وإن لم يكن مستغربا بالنسبة لى ــ أن ترى كنائس فى روما تكتظ بالحضور فى صلوات مسائية يومية، فهذه الظاهرة شاهدتها فى ألمانيا، وإنجلترا، وسويسرا، وغيرها. الموقف الحذر وأحيانا الرافض للدين لم يعد كما كان، قد يسهم ذلك فى تهدئة المخاوف تجاه الأحزاب الإسلامية، ولكن من المؤكد أن الأوروبيين يعودون إلى التدين من باب الحداثة، واحترام القيم الديمقراطية، وصون الحريات العامة، وهم يريدون أن يروا المتدينين فى العالم العربى على شاكلتهم.