مما لاشك فيه أن الاقتصاد المصرى يعانى منذ عقود وأعوام طويلة من سوء إدارة وتنظيم وتنسيق بين أجزائه وقطاعاته ومكوناته، بالإضافة إلى غياب رؤية استراتيجية للدولة يمكن أن ينبثق منها خطط استراتيجية تنموية فاعلة تعمل بموجبها تلك القطاعات، الأمر الذى تراكم عاما بعد عام بصورة مزمنة يمكن من خلالها تأمل الحالة الواهنة للاقتصاد المصرى وتداعياتها المخيفة على مستوى معيشة الملايين من المواطنين وعلى الاستقرار السياسى والاجتماعى والأمنى، فصار الاقتصاد تركة مثقلة تنوء بحملها أكفأ الحكومات، وهو أمر جد خطير تحملته بشجاعة ومسئولية الحكومات المتعاقبة للسيد الرئيس منذ انتخابه وإلى الآن، والتى أخذت على عاتقها التحرك على محورين هما الإصلاح والبناء فى ظل ظروف سياسية واقتصادية وأمنية بالغة الصعوبة والتعقيد دوليا وإقليميا ومحليا، ولا يقتصر الأمر على الصعوبات المشار إليها بل يتجاوزه إلى عبء ثقيل آخر ملقى على عاتق الاقتصاد المصرى وهو المشكلة السكانية المزمنة.
لقد ألقت الجغرافيا بمعطياتها على مصر منذ نشأة ذلك الكون، فبقدر ما قدر الله لمصر عبقرية فريدة فى الزمان والمكان والإنسان، إلا أن نظرة عميقة متفحصة لخريطة مصر كفيلة ببيان حقائق جغرافية لا يمكن تجاهلها، أن أراضى مصر فى معظمها أراض صحراوية قاحلة شحيحة الأمطار فقيرة الموارد المائية والطبيعية، ولذلك تركزت الحياة فى مصر على ضفاف النيل وواديه لآلاف الأعوام ارتباطا بالنيل الذى هو شريان الحياة للمصريين، والآن وفى مساحة لا تتجاوز على أقصى تقدير 10% من مساحة الوطن يتركز قرابة التسعين مليون من السكان بمطالبهم واحتياجاتهم المعيشية، من الغذاء والكساء والمرافق والكهرباء والمياه والنقل والمواصلات والاتصالات والتعليم والصحة والأمن وغيرها، ألا يقتضى الأمر وقفة وتتطلب الأمور الحكمة، إنها المشكلة السكانية بكل مظاهرها وأبعادها وتداعياتها.
***
إن مصر تعانى وبشدة من التداعيات الثلاث للمشكلة السكانية، وهى النمو السكانى المتزايد، وسوء توزيع السكان، وتدنى مستوى الخصائص السكانية، فقد أدت المشكلة السكانية المزمنة التى تداخلت مع غيرها من المشكلات السياسية والاقتصادية والاجتماعية إلى تكوين مركب خطير ومتراكب ومعقد من المشكلات على مختلف الأصعدة، فى مقدمتها الأعباء الثقيلة على الدولة فى توفير السلع الأساسية والمواد الغذائية لهذا العدد من السكان، وأعباء توفير الخدمات العامة والمرافق، وتدهور المستوى العام للتعليم فى جميع المراحل كما وكيفا، وتدهور مستوى الخدمات الصحية، والصعوبات البالغة فى توفير فرص العمل لملايين الشباب المتعلم المؤهل، وارتفاع معدلات الهجرة الداخلية من الريف إلى الحضر، وتغول الاعتداء على الأراضى الزراعية وزيادة عدد المخالفات إلى أرقام لم نسمع بها، فضلا عن العديد من التداعيات السياسية والاجتماعية والأمنية الخطيرة على حاضر ومستقبل الوطن.
فخلال القرن العشرين تضاعف عدد سكان مصر من 20 مليون عام 1950 إلى 40 مليون عام 1978 وفى عام 2005 بلغ عدد السكان 70 مليون نسمة، وفى السادس من ديسمبر 2015 أعلن الجهـاز المركزى للتعبئة والإحصاء أن عدد سكان مصر قد بلغ 86 مليون نسمة، وهو عدد يعادل ضعفى عدد سكان دول الخليج الغربى بمواردها النفطية الهائلة. فيعتبر معدل نمو السكان فى مصر أكبر بخمسة أضعاف من مثيله بالدول المتقدمة، ونحو ضعف معدل النمو السكانى بالدول النامية، وهذه الأرقام تعكس زيادة سكانية متغولة تتجاوز كل معدلات التنمية الاقتصادية والاجتماعية وتستنفد جهودها وآثارها الإيجابية، وتؤثر فى مقدرات المجتمع وحاضره ومستقبله على جميع الأصعدة، وتمس فى المقام الأول حياة المواطن المصرى سياسيا واقتصاديا واجتماعيا ونفسيا وثقافيا وأمنيا.
***
ليس الأمر مقتصرا فقط على الزيادة السكانية بل على اختلال توزيع هؤلاء السكان فى ربوع الوطن وتركزهم التاريخى المزمن فى العاصمة والدلتا. إن محافظة القاهرة تعد أكبر محافظات الجمهورية من حيث عدد السكان حيث سجل سكانها 9.1 مليون نسمة بنسبة 10.6% من سكان مصر، تليها محافظة الجـيزة 7.4 مليون نسمة بنسبة 8.6%، ثم محافظة الشرقية 6.3 مليون نسمة بنسبة 7.4%، وتعتبر محافظة جنوب سيناء أقل المحافظات سكانا ويبلغ عدد سكانها نحو 173 ألف نسمة، تليها محافظة الوادى الجديد بعدد 230 ألف نسمة، ويتركز نحو 99.3% من السكان بالوادى والدلتا على الرغم من أن مساحته لا تزيد على 3.5 % من مساحة مصر، فتتركز بالدلتا نسبة 42.4% من السكان، بينما الوادى تتركز به نسبة 34.6% من السكان، والقاهرة والإسكندرية بهما 22.3% من السكان.
قد أظهر التعداد السكانى الأخير لمصر فى عام 2015 أن الأطفال يمثلون نسبة 40 فى المائة من عدد السكان نتيجة ارتفاع المواليد، وهى النسبة التى تجعل مصر تصنف من أكثر دول العالم فى ارتفاع نسبة الأطفال فى الشرائح العمرية أقل من 15 عاما، وهو ما يؤدى إلى زيادة الإعالة وزيادة التكاليف الاقتصادية على الأسرة المصرية ويمثل ضغطا على الحكومة لأن الأطفال أكثر احتياجا للخدمات من الشباب وكبار السن باعتبارهم فئة غير منتجة، أما عن مستوى الخصائص السكانية فإن ملامح التعداد تعكس أننا أمام انخفاض فى مستوى الخصائص السكانية استنادا إلى المستوى التعليمى والثقافى ومشاركة المرأة والوعى بالقضايا المجتمعية.
قد يدفع البعض بأن عدد السكان هو أحد عناصر قوة الدولة وثقلها وأهميتها وهذا صحيح مع ثبات العوامل الأخرى، لكن عدد السكان المتضخم يمكن أيضا النظر إليه باعتباره حمولة زائدة قد تتجاوز قدرة السفينة ومن ثم تغرق السفينة بمن عليها، ولا سيما عند اختلال التوازن بين قدرتها وحمولتها، أى بين عدد السكان والموارد الاقتصادية. فهناك كثير من الدول ترتفع فيها الكثافة السكانية ولكنها لا تعانى من مشكلة سكانية لأنها تستطيع تحقيق التوازن بين عدد السكان والموارد الاقتصادية للبلاد. كما أن البعض الذى يشير إلى الدول المليونية الكبرى مثل الصين والهند لا ينبغى أن تكون اشارته إليها بمقارنة ضحلة مرسلة وغير علمية، لأن المقارنة لها أسسها ومفاهيمها والتى ينبغى لها أن تدرك الاختلافات والتباينات وتباين الظروف والمتغيرات بين كل دولة وأخرى.
إن الأمر يقتضى فى المرحلة الراهنة بمعطياتها الدقيقة، أن تقف الدولة بحكومتها وأجهزتها وقفة حاسمة فى مواجهة المشكلة السكانية المزمنة، والعمل بشجاعة على طرح مسألة إصدار القانون الوطنى للسكان، وصياغة رؤية وطنية جامعة لمستقبل سكان مصــــر، تأخذ فى حسبانها كل الاعتبارات دون مواربة ولا توجس، لأن الأمر جد خطير ولا يمكن بأى حال من الأحوال ترك الأمور تسير بمثل هذه العشوائية تحت أى مسمى أو سبب. ومن تلك الرؤية يجب أن تنبثق استراتيجية شاملة ملزمة يمكن من خلالها عمل تخطيط استراتيجى لموضوع السكان على مختلف الأصعدة والمجالات، بموجب خطة استراتيجية، ينظم تنفيذ مقرراتها صياغة وتشريع القانون الوطنى للسكان، بنصوص وبنود قاطعة ملزمة، تحدد حقوق والتزامات وواجبات الفرد والأسرة فى إطار المجتمع وعموم الوطن ومصالحه حاضرا ومستقبلا .
***
إن أغلى ما تمتلك مصر هو الانسان المصرى، وهو الذى صنع ذلك التاريخ العريق لمصر، وهو القادر على صنع حاضرها ومستقبلها، ولا يمكن أن يتضح ويبرز الجوهر الحقيقى الثمين للإنسان المصرى بقدرته فى ظل تلك المشكلة السكانية المزمنة بأبعادها وتداعياتها الخطيرة، إنها الكم الذى يقضى على الكيف، والواقع الذى يلقى بظلاله القاتمة على الغد، ولن تتحول القوة السكانية المصرية إلى قدرة فاعلة دون تنظيم علمى قانونى فعال، تنظيم من أجل التعظيم، تعظيم دور الإنسان المصرى فى بناء مستقبل مصــر، تعظيم الاستفادة من القوة السكانية لمصر لتكون لمصر وليس عليها.