1919: ثورة الأمة
إبراهيم عوض
آخر تحديث:
السبت 9 مارس 2019 - 7:50 م
بتوقيت القاهرة
مظاهر الاحتفال بالذكرى المئوية لاندلاع ثورة سنة 1919 التى حلت يوم أمس التاسع من مارس مفاجأة سارة. الكثيرون تخوفوا من أن تمر هذه الذكرى مرور الكرام، ولكن هذا التخوف ولحسن الحظ لم يكن فى محله. ما بين المجلس الأعلى للثقافة وصندوق التنمية الثقافية والجامعة الأمريكية بالقاهرة وحزب الوفد الجديد وغيرهم كثير تتعدد مظاهر الاحتفال بتحليل تجليات هذه الثورة وما مثلته وأسهمت به فى التطور السياسى المصرى، ثم بتناولها للنظام السياسى الذى نشأ عنها وما شهده من تطورات اقتصادية واجتماعية وثقافية، وهى لا تنكص عن تحديد نقاط الضعف فى هذا النظام السياسى التى انتهت إلى سقوطه فى الخمسينيات من القرن الماضى. هذا الاحتفال ربما يرجع إلى ما ذهب إليه محلل فاضل فى صحيفة الأهرام من أن المصريين قد اختلفوا «على كل شىء فى تاريخهم الحديث عدا ثورة 1919»، سواء أكان هذا صحيحا تماما أم لا.
***
ما هى الأسباب التى تدعو المصريين إلى الاحتفال بذكرى الثورة وما الذى مثله النظام السياسى الذى نشأ عنها، وفعله، كمبررات لهذا الاحتفال؟ ثورة 1919 يحسبها أغلبية المهتمين بالسياسة المصرية أولى الثورات فى التاريخ الحديث لمصر. البعض يحرص على اعتبار أنها الثانية وأن الأولى هى الثورة العرابية. مسألة السبق غير ذات أهمية ولكن الحق هو أنه لا مقارنة ممكنة بين هذه وتلك. حركة عرابى حركة احتجاجية لأسبابها وجاهتها وشرعيتها ولكنها لم تنشئ نظاما سياسيا ولا هى أدخلت على مصر تغييرات بنيوية عميقة، سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية لكى يمكن اعتبارها ثورة. هذا فعلته كل من ثورة سنة 1919، ثم بعد ذلك بأكثر من ثلاثة عقود، الثورة الناتجة عن حركة الجيش فى سنة 1952. لا يريد المرء التعدى على مجال اختصاص المؤرخين، ولكن ربما كان من الجدير اعتبار أن الثورة الأولى هى تلك التى قادها محمد على فى عقود النصف الأول من القرن التاسع عشر ووضع بها مصر على عتبات العصر الحديث أولا بقضائه على سلطة المماليك، الذين جاءوا ليخدموا فى البلاد ويدافعوا عن سكانها ويحموهم، فبدلا من ذلك، ويا للسخرية، حكموها وحكموهم لحسابهم لقرون، وثانيا بالتغيرات الهائلة التى أدخلها على الرى والزراعة والتصنيع والتعليم، ثم أخيرا بانفصاله بمصر كأمر واقع عن الدولة العثمانية. هذا الانفصال كان اللبنة الأولى للكيان السياسى المصرى الذى تبلور فيما بعد فى عهد حفيده إسماعيل ثم ترسخ فى ثورة سنة 1919 وفى الدولة الوطنية الناشئة عن تصريح 28 فبراير الذى أدت إليه، وبعد ذلك وخصوصا فى العقود الثلاثة التالية التى كافح خلالها المصريون، فى ظل نظامهم السياسى الجديد، من أجل استكمال استقلالهم وإجلاء القوات البريطانية عن بلادهم.
لم تقتصر ثورة سنة 1919 على النخبة فى القاهرة بل هى امتدت من مدن الصعيد وقراه إلى الإسكندرية. كانت لها زعامة معترف بها وقيادة تساندها، ولكنها كانت أيضا لا مركزية فاتخذ الثوار مبادراتهم وأعلن هذا مثلا جمهورية زفتى هنا، ونادى ذاك بإمبراطورية المنيا هناك، وقطع من قطع خطوط السكك الحديدية فى جنوب مديرية المنيا، أو أسلاك التلغراف فى مديرية أخرى. متانة الدولة الوطنية تتوقف على وجود أمة موحدة تسكنها. «الأمة المصرية» تشكلت عبر عقود عديدة منذ النصف الأول من القرن التاسع عشر، وخصوصا، اعتبارا من حكم إسماعيل فى الستينيات والسبعينيات منه. على الرغم من محاولات الاحتلال لبث الفرقة حتى يسود، وبصرف النظر عن اغتيال بطرس غالى باشا فى سنة 1910، فمع اندلاع الثورة كانت الأمة بمسلميها وأقباطها قد تكرست. فى نوفمبر 1919، عمل اللورد ألينبى، المعتمد البريطانى، على تكليف يوسف وهبة باشا بتشكيل الوزارة فما كان من ألفين من رجال الدين والوجهاء والمتعلمين من الأقباط أن اجتمعوا فى الكنيسة المرقسية الكبرى فى القاهرة برئاسة وكيل البطريركية وأرسلوا برقية إلى وهبة باشا عبروا فيها عن احتجاجهم الشديد على «إشاعة قبولكم للوزارة إذ هو قبول للحماية ولمناقشة لجنة ملنر، وهذا يخالف ما اجتمعت عليه الأمة المصرية من طلب الاستقلال التام». كانت الحكومة البريطانية قد قررت إيفاد لجنة برئاسة اللورد ملنر إلى مصر لإقناع المصريين بقبول استمرار الحماية البريطانية عليها، وهى لجنة قوبلت بالمقاطعة ففشلت فى عملها واستمر المصريون فى ثورتهم. والأمة ناقصة بدون نسائها. تكريسا لما بدأ قبلها بعقدين من الزمان، فى أثناء الثورة تكونت لجنة الوفد المركزية للسيدات، وفكت هدى شعراوى ومعها سيزا نبراوى إسار كل منهما الرمزى سنة 1921 لدى عودة سعد زغلول إلى القاهرة فى محطة السكك الحديدية فيها ثم ما لبثت اللجنة المركزية أن أنشأت الاتحاد النسائى المصرى.
***
الدولة الوطنية المستندة إلى أمة متماسكة ينشأ فيها نظام سياسى حديث وإلا فهى ليست دولة وطنية وإنما هى مجموعة من الناس على رقعة من الأرض يسوقها سائس أو يرعاها راعٍ. تنازع الثوار بشأن نشأة النظام السياسى الذى كلفت لجنة من 30 عضوا بوضع دستور له. الأقلية من بين قادة الثورة قبلت بلجنة الثلاثين وهى كانت ممثلة تمثيلا جيدا بها، وهى فى قبولها هذا كانت متسقة مع قبولها قبل ذلك بتصريح 28 فبراير على أساس البناء عليه وليس الاكتفاء به. فى المقابل، زعيم الثورة، سعد زغلول، اعتبر لجنة الثلاثين «لجنة الأشقياء»، وهو، ومعه الأغلبية الساحقة من الجماعة الوطنية التى وضعت ثقتها فيه وفى الجانب الأعظم من الثوار أعضاء الوفد الذين بقوا معه، كانوا متسقين مع موقفهم الرافض لتصريح 28 فبراير بسبب التحفظات الأربعة الواردة فيه بشأن الدفاع عن مصر وتأمين مواصلات الإمبراطورية البريطانية وحماية الأقليات والسودان، وللاستقلال المنقوص الذى أقره بذلك لمصر. الجدير بالملاحظة هو أن براجماتية سعد زغلول، ورجل السياسة فيه، حملاه على القبول ضمنيا بنتائج تصريح 28 فبراير وبمظاهر السيادة المصرية، وإن كانت منقوصة، ثم بالمنتج الصادر عن لجنة الثلاثين، وهو دستور سنة 1923. فى إطار هذه السيادة وفى ظل هذا الدستور أصبح الوفد، الذى صار حزبا، حزب الأغلبية الساحقة، من الأقباط والمسلمين، الذى فاز فى كل انتخابات حرة منذ سنة 1924 وحتى فوزه الساحق فى انتخابات ديسمبر سنة 1949. موقف الحزب الوطنى، حزب مصطفى كامل، كان على العكس تماما من موقف سعد زغلول والوفد. رفض الحزب الوطنى رسميا وكتابة تصريح 28 فبراير وما نتج عنه، وهو كان بعيدا أصلا عن ثورة 1919 وازدراها واستصغر زعماءها، المعتدلين منهم والمتشددين، وتكبر على النظام السياسى الناشئ. والواقع هو أنك إذا مددت الخط حتى الخمسينيات من القرن العشرين ستجد أن أفكار الحزب الوطنى، بل ورجاله، مثل سليمان حافظ، كانوا وراء إنهاء النظام السياسى لثورة 1919 بل وإسقاط قيمه الأساسية وهى الحرية والتعددية والانفتاح والقبول بالآخر المختلف.
***
ومع ذلك، فإن القيم لا تموت! يمكنك أن تسقط القيم وأن تهيل عليها التراب بل وأن تدفنها. ولكن تحت الرماد ترقد الجمرات. الطبيعة تحرك الرياح، والرياح تزيح التراب وتبعثر الرماد، فتنكشف الجمرات. قبل 2011 ثم فى يناير وفبراير 2011، كان عجيبا الاستماع إلى الناس، الشباب والأقل شبابا، يعبرون عن حاجتهم إلى الحرية والتعددية والانفتاح، ليس لتحقيق مصلحةٍ لهم، فأى مصلحة مادية مؤكدة تكمن فى أى من هذه القيم، بل من أجل تنظيم شئون مصر وتأمين نهضتها المتواصلة، بعد أن تأكد، بما لا يدع مجالا لأى شك، أن الكبت والاصطفاف والانغلاق قد أدوا إلى تضاعف المشكلات وتشابكها وإلى تراجع مصر فى سلم نهضة الأمم بعد أن كانت ضمن بلدان الصدارة فى عالم الجنوب ولم تكن المسافة التى تفصلها عن عدد من الدول المحسوبة الآن فى الشمال المتقدم كبيرة.
النظام السياسى الناشئ عن دستور 1923 هو ثمرة لثورة 1919. قيمه المثلى لا تنطفئ. ولكن كيف عاش النظام وما هى الأسباب التى أدت إلى سقوطه؟
هذا موضوع المقال القادم.
أستاذ السياسات العامة بالجامعة الأمريكية بالقاهرة