الفرح بـ«مثلث» يمانى
سيد محمود
آخر تحديث:
الثلاثاء 9 مارس 2021 - 8:00 م
بتوقيت القاهرة
لا أخفى حماسى لديوان: «الوداع فى مثلث صغير» الذى أصدرته دار ميريت للشاعر أحمد يمانى أخيرا وهو حماس يختلط بمشاعر فرح لا أول لها ولا آخر والسبب الرئيس للفرح هو الشاعر نفسه الذى كان ولا زال أحد أعز أصدقائى وتمتد صداقتنا لأكثر من 30 عاما لم يخذلنى فيها أبدا، على الصعيدين الشخصى والفنى.
احتفظ يمانى الذى هاجر إلى مدريد قبل عشرين عاما بروحه الحرة المرحة وبالقلق الفنى الذى خرج به ومكنه دائما من المغامرة وإنتاج نص يشبهه يكاد يلتصق به من فرط قدرة هذا النص على تمثيل صاحبه كأنه «بطاقة هوية»، بالاضافة إلى قدرته فى نفس الوقت على تمثيل شعراء جيل التسعينيات كلهم، ولذلك اعتبر صدور عمل جديد للشاعر حدثا بحد ذاته.
ولأن هذا السبب قد يبدو غير موضوعى فإن جدارة النصوص التى يتضمنها الديوان تعفينى أمام القارئ من شبهة توريطه.
وتعيد النصوص الثقة فى الشعر، وتؤكد أن تجربة شعراء التسعينيات كانت فارقة ومفصلية، وأحدثت فى الشعر المصرى طفرة نوعية ذات تأثير عميق، على الرغم من أنها افتقرت لدعم نقدى يعزز من وجودها فى وسائط تيسر تداولها بين القراء وظلت معزولة فى محيط نخبوى إلى حد كبير، ثم جاء الإنترنت وساعد فى تعزيز صلتها بالقراء الجدد الذين لم يعودوا منشغلين بسؤال الشكل الشعرى، ولم يرتبكوا إزاء تصنيفه وهل: هو نثر أم تفعيلة وانحسرت ظواهر شعرية ذات طابع عمومى كانت قد استولت تماما على الفضاء العام خلال سنوات الثمانينيات وما بعدها.
وفى ظنى أن هذا الديوان يهيئ فرصة حقيقية لكى يستأنف الشعر العلاقة مع الجمهور وربما كان بفضل جمالياته ونبرته الصافية ولغته البسيطة أقرب إلى عملية تصحيح لوضع الشعر فى حياتنا الثقافية، بعد أن توقفت المكتبات عن توزيع دواوينه، وبالتالى فقدت دور النشر الدوافع اللازمة لإنتاجه.
ويمكن اعتبار الديوان سيرة ذات تعانى من إدراك وحدتها وخواء عالمها، وربما كانت النصوص هى احتفالية موجعة بالعدم وفقدان اليقين، كما أنها وسيلة لتقصى الزوال والتأمل فيما يطرحه الموت من تحديات تخص فناء اللحظات التى تبقى ماثلة بغموضها وفتنتها المتراكمة فى زمن معطل.
يتشكك الشاعر فيما عاشه، وفيما يراه ماثلا، كارتعاشة ضوء أو توتر جسد محموم، ويذهب سعيا للغياب وراء ضبابية المشاهد آملا فى بلوغ لحظة تلائم منطق المراجعة وسرد أهوال الرحلة. كما يشير فى الإهداء إلى الشاعر العراقى كاظم جهاد.
و(مجاز الرحلة) دال وأساسى فى المنطق الذى يتأسس عليه الديوان ويختزل عالمه الذى لا يمكن وصفه بـ«الميتافيزيقى» لأن ما تعانى منه الذات الشاعرة ليس اغترابا، بل مفارقة تقصى عنها عالمها الاليف وكشفا للرغبة فى إزاحة العالم ونفى وجوده فى المطلق، فالذات ارتاحت لوحدتها وإيمانها بالبقاء فى غرفة (حيث الحياة بلا أحد) وما نجده هنا إجمالا يشبه نزع قشرة عن جرح قديم.
والأمكنة كما تبدو فى الديوان ليست إلا متاهات وليس الطريق سوى سعى وراء خيط من دخان.
والشاعر ينفى أن يكون غريبا لأن الغرباء سعداء وهو ليس غريبا، بل يرغب فى الانزواء ويفضل ألا يتورط سوى فى مناشدة ذاته. ويلح فى التقصى عن هويته واغترابه انطلاقا من العلاقة مع اللغة التى تبدو واحدة من اكثر المفردات الحاحا فى هذه التجربة الثرية بالألم.
ومن ناحية أخرى يعطى الديوان مساحة هائلة لحضور الأصوات سواء كانت صرخات أو أغنيات وبنفس القدر يعتنى بتأصيل المسافة بين الداخل والخارج ويؤسس للحواجز بين العالمين، فما تتيحه النوافذ نفى للعالم خارجها وليس تأكيدا لوجوده.
ويعطى الديوان حضورا مائزا للسرد الشعرى ويستثمر فى مفارقاته بذكاء ودون التورط فى ابتذال اليومى والمعاش على الرغم من نجاحه فى استعمال قاموس شعرى متأصل فى الشارع ويبدو الشاعر شغوفا كذلك بمساءلة الذاكرة واستعادة خبراتها التى انزوت وندوبها التى ترسخت ويعمد وهو بصدد ذلك إلى إنتاج صور شعرية ذات منطق سوريالى لعله المناسب لتأكيد حالة التداعى والتأرجح بين المرئى واللا مرئى ومحاولة القبض على غبش الاحلام والتأسى على توالى الفقد وسبل المواساة.