لحظة الانحياز للوطن
زياد بهاء الدين
آخر تحديث:
الثلاثاء 9 أبريل 2013 - 8:00 ص
بتوقيت القاهرة
نحن فى لحظة فارقة نحتاج فيها لوضوح رؤية لأن التفاصيل حينما تكثر فإنها تطمس الحقائق وتجعل من العسير معرفة الخطأ من الصواب والحقيقى من الزائف. حتى كتابة هذه السطور لا تزال الاشتباكات دائرة امام كاتدرائية العباسية، والجريمة مستمرة تحت سمع وبصر الدولة، والأمن والضحايا يتزايد عددهم. لذلك فلندع جانبا التفاصيل حول ما جرى لانها لن تتضح الا بعد حين (وقد لا تتضح ابدا كما حدث من قبل) ولنحاول تبين الحقائق دون لف أو دوران.
علينا ان ندرك أولا ان جريمة العباسية نتيجة طبيعية ومنطقية لمناخ تأجيج وتذكية الفتنة الطائفية الذى نعيشه والذى حذرنا مرارا من انه سوف يؤدى إلى مثل هذه الكارثة. الطائفية ظاهرة حقيقية وكامنة فى مصر قبل الثورة وبعدها، تتصاعد أحيانا وتهبط فى أحيان أخرى. ولكن ما يحدث الان من استخدام ممنهج للطائفية كوسيلة للحشد السياسى والفوز فى الانتخابات ولتحقيق مكاسب جماهيرية من جانب الأحزاب والجمعيات وضيوف الفضائيات تجاوز كل الخطوط الحمراء وهو ما ندفع ثمنه الان.
كذلك يجب إدراك انه خلال العامين الماضيين تراكمت تصرفات غير مقبولة من قبل السلطة الحاكمة جعلت المواطن المسيحى فى مصر يشعر بانه مواطن من الدرجة الثانية بغض النظر عن تصريحات المسئولين عن النسيج الوطنى وعنصرى الأمة: العنف الطائفى الذى يتم تجاهله، عدم تحديد الجناة فى أية جرائم طائفية من كنيسة القديسين حتى ماسبيرو، الغياب المشين للتمثيل المسيحى العادل فى الحكومة والبرلمان والجمعية التأسيسية وفى مؤسسة الرئاسة وفى كل مواقع العمل العمل، الاعتراف الحكومى بالعقوبات الجماعية والتهجير القسرى للعائلات، عجز الرئيس عن التصرف باعتباره رئيسا لكل المصريين فى حديثه وفى تعامله مع مشاكل البلد بل وفى تجاهله للأعياد المسيحية والمناسبات الفارقة مثل جنازة الأنبا شنودة ثم تعيين خليفته والدعوة للانتخابات فى أيام الأعياد المسيحية، تقنين استخدام دور العبادة والشعارات الدينية فى الدعاية الانتخابية، هذه كلها ليست سوى أمثلة لحالة عامة أدت فى النهاية للشعور السائد بين المسيحيين فى مصر بان الرئيس لا يمثلهم والحكومة لا تكترث بهم والدولة منحازة ضدهم.
ثم ان التوتر الطائفى فى مصر حقيقة مؤسفة وترجع إلى عهود بعيدة، تغذيها الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والصراع على فرص العمل وعلى الموارد المحدودة والتباعد الثقافى والاجتماعى بين المسلمين والمسيحيين ثم اخيرا الانفلات الأمنى وغياب الدولة. هذا كله صحيح ويجعلنا نتعامل مع ظاهرة قديمة وذات جذور عميقة فى المجتمع. ولكن الخطير فيما نشهده فى الوقت الراهن اننا تحولنا من حالة تجاهل الطائفية والادعاء بعدم وجودها إلى حالة استغلالها بشكل سافر فى الصراع السياسى على السلطة وفى تحقيق مكاسب انتخابية دون رادع من القانون أو من الحرص على الصالح الوطنى.
لا أريد ان انشغل كثيرا بالمسئول بشكل مباشر عما يحدث فى العباسية، فهناك بلطجية، وهناك توتر طائفى، وقنابل مولوتوف، وربما أصابع خفية، وكل هذا يفتح الباب أمام احتمالات لا نهاية لها عمن بدا المشكلة ومن ساعد على تفاقمها. ولكن لا شك لدى انه فى نهاية الامر فإن المسئولية السياسية والفعلية تقع على رئيس الجمهورية الذى ترك هذا المناخ الطائفى يتصاعد وعلى الحكومة التى لا يبدو انها تعيش معنا على نفس الكوكب وعلى وزير داخليتها الذى ترك قواته تتفرج على الاشتباكات وتسمح بالاعتداء على مقر الكنيسة المصرية دون اكتراث أو إدراك لخطورة اللحظة التاريخية. نحن للأسف أمام نظام حكم لا يدرك ان الكاتدرائية والمحكمة الدستورية ومشيخة الأزهر كما الأهرامات ليسوا مجرد مبان كبيرة يمكن إصلاحها واستبدالها وقت اللزوم، بل رموز لمؤسسات ثقافية ودينية وحضارية يجب الدفاع عما تمثله من قيم وما تحمله من رمز فى وجدان كل المصريين وان الاعتداء عليها إهانة لكل مصرى أيا كنت عقيدته وأيا كان موقفه السياسى.
كم مرة قلنا اننا امام لحظة فارقة؟ وان الموقف لم يعد يحتمل سكوتا؟ وان الحالة الطائفية فى مصر تقترب من حافة الانفجار؟ كم مرة تصورنا ان هناك من استوعب درس التاريخ؟ وأدرك معنى وأهمية احترام التعدد الدينى والثقافى فى مصر؟
للأسف اننا نجد انفسنا مرة أخرى أمام ذات الوضع المؤسف ولكن هذه المرة بما يتجاوز فى خطورته ورمزيته وعواقبه المرات الماضية. هذه لحظة تفرض على كل واحد منا ان يحدد موقفه بشكل واضح وحاسم: اما اننا مع دولة حديثة ترفض التمييز بكل أشكاله وتنهض على المواطنة الكاملة والمساواة والقانون، أو فمرحبا بالعيش فى العصور الوسطى. هذه مسؤليتنا كمواطنين لان الدولة لم تعد مكترثة ولا مدركة لأهمية الموضوع وخطورته. هذه مسئوليتنا التاريخية نحن المسلمون اولا لأننا الأغلبية وعلينا واجب حماية الأقلية فى هذا البلد ولان التعامل مع الأزمة من منطلق التكافؤ بين الطرفين ليس مقبولا بل بمثابة الدعوة إلى حرب أهلية. وهذه أيضا مسئولية أشقائنا وإخوتنا المسيحيين لان عليهم عبء وتحدى التحمل والتعاون واحتواء مشاعر الظلم والتجاهل والإقصاء لان هذا قدرهم فى هذه اللحظة الفارقة وهم قادرون على ذلك لو وفرنا لهم الظروف.
وحدتنا الوطنية لن يحميها سوى ابناء وبنات هذا الوطن الحريصين على مستقبله ولكن علينا ان نأخذ موقفا قبل ان يفوت الأوان. هذه لحظة الانحياز للوطن ولوحدته لا السكوت والفرجة، وبيد كل واحد منا ان يعبر عن اختياره بأية وسيلة مهما بدت صغيرة أو غير مؤثرة لان عملنا الجماعى الان هو ما سيحدد مصير هذا البلد.