تعليقات على بيان الحكومة
إبراهيم عوض
آخر تحديث:
السبت 9 أبريل 2016 - 10:00 م
بتوقيت القاهرة
بيانات الحكومات أمام برلمانات بلدانها هى أهم البيانات السياسية فى البلدان التى تأخذ بالنظم البرلمانية أو بالنظم الخليط بين الرئاسية والبرلمانية مثلما هى الحال فى مصر. منذ الدستور المؤقت لسنة 1964، مرورا بدستورى 1971 و2012، أخذت مصر بالنظام الخليط شبه الرئاسى وشبه البرلمانى، وهى وصلت فى ظله إلى الحالة المؤسفة التى تجد البلاد نفسها فيها. العيب ليس فى النظام وإنما فى كيفية ممارسته، وهى ممارسة انكرت التعددية، وغابت عنها الديمقراطية، وانعدمت منها السياسة وهو ما يهمنا اليوم فى مقام التعليق على البيان الذى ألقاه رئيس الوزراء أمام مجلس النواب طالبا منه التصويت بالثقة على حكومته.
أول ما يستوجب التعليق هو أن رئيس الوزراء أعلن فى بيانه أن دور الحكومة هو أن «تنفذ وتتحمل المسئولية»، وفى هذا مخالفة للدستور الذى تنص المادة 167 منه على أن الحكومة تشترك «مع رئيس الجمهورية فى وضع السياسة العامة للدولة والإشراف على تنفيذها». ليس النص الدستورى حلية ولا البيان الحكومى يفترض فيه التواضع و«ألا تعلو العين على الحاجب». فى النص حكمة هى أن تتوازن سلطات رئيس الجمهورية والحكومة وأن يسهم كل منهما، من مناظير قد تختلف، فى وضع السياسة العامة بما يثريها ويهديها إلى أفضل السبل، من مناظيرهم المجتمعة.
التعليقات بعد ذلك عديدة ولكننا سنختار منها بعضها، يتعلق بالمنهج المتخذ فى تصور برنامج الحكومة، ثم بجوانب فى تشخيص المشكلات التى تحيق بمصر وفى طريقة التصدى لها، وبما غاب عن البيان، وأخيرا، نتناول شيئا عن صياغته.
أعلن رئيس الوزراء أن الحكومة جادة فى عملية الإصلاح وأنها تدرك أن «المشكلات والتحديات كبيرة وضخمة ولكننا عازمون على تبنى المنهج العلمى السليم فى مواجهتها». المفترض فى أى حكومة فى القرن الحادى والعشرين ألا تضرب الودع وإنما أن تستخدم ما توافر لها من أدوات العلم فى حكم أى بلاد. حقيقة الأمر هى أن هذه الصياغة تود الإيحاء بأن ما تقترحه الحكومة مبنى على العلم وما عداه هو مجرد خرافات لا سند لها من درس. فى هذا استمرار لنزع السياسة عن العمل العام وتقديم الحلول المقترحة على أنها الحلول الوحيدة العاقلة، بينما المتوقع بل والمشروع تماما هو أن تقول الحكومة أن هذه خياراتها، وما السياسة إلا اختيارات تقبل بعضها الشعوب تارة، فإن لم ترضها استبدلت بها اختيارات أخرى. الاستمرار فى نزع السياسة هو من أخطر ما يخرج به قارئ البيان عندما يتذكر ما تردينا إليه نتيجة لغيبة السياسة عقودا بعد عقود.
***
أهم قضية سياسية لم يناقشها البيان قط هى تلك الخاصة بالموازنة والتى تغل حالتها يد الحكومة عن التصدِى الفعال للمشكلات التى يعانى منها المصريون وتعرض مستقبل حياتهم لآفاق كئيبة. صحيح أن البيان شكا من ارتفاع الإنفاق العام على خدمة الدين وعلى الأجور وعلى دعم السلع الغذائية والطاقة، وهو محق فى ذلك فهذه الأبواب الثلاثة تمثِل 79.5% من الإنفاق العام فى السنة المالية 2015\2016، فلا يتبقى إلا 20.5% منه لكى تفى الدولة للشعب بكل ما تدين به له. العقدة الرئيسية فى الاقتصاد السياسى لمصر هو تخلف اقتصادها وانخفاض القيمة المضافة لأنشطته، وعدم قدرته بالتالى لا على توفير مستوى معيشة مقبول لمن يستخدمهم هذا الاقتصاد ولا على تزويد الدولة بإيرادات تمكنها من تمويل الخدمات العامة التى يستحقها الشعب. الحل ليس فقط فى تخفيض «فاتورة» الدعم بإيصاله لمن يستحقونه. ما الذى يمكن أن تفعله الدولة لتحديث الاقتصاد باستخدام الأدوات المختلفة للسياسة العامة إن كان كل المتاح لها هو 20.5% من الإنفاق العام أو حتى 24% منه إن هى نجحت فى تخفيض الإنفاق على الدعم؟ ليس مطلوبا من الحكومة أن تحل المسألة فى سنة أو اثنتين أو ثلاث وإنما أن تتقدم على طريق حلها بأن تحدد أبعادها وأن ترسم الطريق الذى تنوى خوضه لحل المسألة تدريجيا. ذكر الخدمات العامة والدعم يثير ما ورد فى البيان، عند الحديث عن مشكلات الوضع الراهن، من «استمرار الدولة لعشرات السنوات فى تقديم الخدمات بأقل من تكلفتها الحقيقية». هذا تشخيص يجانبه الصواب تماما. هل المفترض أن تتقاضى الدولة من المواطنين تكاليف التعليم الذى يتلقونه؟ نحن لسنا بصدد سوق، الدولة توفر الخدمات فيه مثل غيرها من منتجى الخدمات وتجارها. التعليم حق للمواطنين ثم هو استثمار فى القوى البشرية يستفيد به من بعد الاقتصاد بقطاعيه الخاص والعام. ومن المؤكد أن انخفاض الإنفاق على التعليم، أى الاستثمار فى القوى البشرية، هو من أسباب تخلف الاقتصاد.
عند استعراضه «لتحديات» الوضع الراهن، اكتفى رئيس الوزراء بالإشارة إلى أن انخفاض جودة التعليم، باعتباره من الخدمات العامة، تحد «آخر يواجه الدولة»، وهو لمواجهة هذا التحدى اكتفى بالحديث عن الأبنية التعليمية التى تنوى حكومته تشييدها وعن الارتقاء بالمعلم وتطوير المناهج والكتاب المدرسى دون أن يقول كيف سيحدث ذلك. هول المسألة التعليمية ووقوعنا بين أسوأ بلدان العالم من حيث النظام التعليمى كانا يستحقان من رئيس الوزراء أكثر مما قاله بمراحل.
***
العدالة الاجتماعية وخدمات المواطنين من المحاور التى تعددها الحكومة لعملها، ولكنها تعزل هذا المحور عن غيره من المحاور وكأنما ليس لاختيارات السياسة الاقتصادية مثلا آثار على العدالة الاجتماعية. الانتقال من ضريبة المبيعات إلى الضريبة على القيمة المضافة، ألن يؤثر على توزيع الأعباء والدخل، وبالتالى على العدالة الاجتماعية؟ هذه مجرد إشارة إلى الصلات بين السياسات التى ينبغى أن تؤخذ فى الاعتبار والاعتراف بوجودها. ثم لا تجد الحكومة بيانا على اهتمامها بالعدالة الاجتماعية إلا برنامجى «تكافل» و«كرامة»، وهما برنامجان جيدا التصميم بالفعل وضروريان، إلا أنهما برنامجان للمعونة الاجتماعية، وليس حتى للحماية الاجتماعية كما هى مفهومة فى العالم أجمع، ثم أن كل الإنفاق عليهما لا يتعدى 0.2% من الإنفاق العام، بمعدل 3.000 جنيه للأسرة المستفيدة فى العام الواحد. هل بهذه النسبة الزهيدة والمبلغ الضئيل تتحقق العدالة الاجتماعية؟
ثم توجد المسألة السكانية التى اعتبرها رئيس الوزراء وعن حق فى بداية بيانه من أهم التحديات التى تواجه مصر. غير أنه عندما تصدى لهذه المسألة الحيوية فإنه أدرجها تحت عنوان «تطوير الخدمات الصحية» واعتبر أن السبيل لعلاجها هو «تطوير خدمات السكان وتنظيم الأسرة» «عن طريق توصيل خدمات تنظيم الأسرة والصحة الإنجابية للمناطق العشوائية من خلال العيادات المتنقلة». من هذا المنظور مسألة السكان هى مسألة تعالج طبيا عن طريق الصحة الإنجابية والعيادات فى المناطق العشوائية وحدها! ألم يخطر على بال الحكومة مثلا استخدام قانونها المسمى «قانون الخدمة المدنية» للمساهمة فى تخفيض معدل المواليد؟ وألا تشمل المسألة السكانية خصائص السكان أيضا؟ المسألة السكانية خطيرة بالفعل ولكنها تعالج فى بيان الحكومة من منظور مبتور لا يتناسب مطلقا مع أهميتها.
المدهش حقا هو أن رئيس الوزراء لم ينبس بكلمة واحدة بشأن أخطر المسائل التى تواجه المصريين وهى مسألة التشغيل. كل ما ورد عن التشغيل هو رضا عن التقدم المحرز فى السنة الأخيرة حيث انخفض معدل البطالة من 13.3% إلى 12.7%. مسألة التشغيل لم تستحق فى برنامج الحكومة أى معالجة غير ذلك، لا باعتبارها تحد، ولا كمحور لعملها، وهى ليست مذكورة مجرد ذكر ضمن الموضوعات التى يعتبر البيان أنها «تهم المواطن كالتعليم والصحة والإسكان والصرف الصحى». البطالة ليست إلا جانبا واحدا من مسألة التشغيل التى كف العالم منذ زمن طويل عن اعتبار أن النمو الاقتصادى وحده كفيل بحلها. لا يوجد أى تحليل لمسألة التشغيل ولا تشخيص لها يكون أساسا لعلاجها، علاج لن يثمر شفاء بين سنة وأخرى ولكنه علاج لا بد من البدء فيه، خاصة أنه يتأثر بالسياسات القطاعية ويؤثر فيها، تلك السياسات التى سكتت تماما عن تناوله فى بيان الحكومة.
***
تعليقات عديدة أخرى لا تقل أهمية يستدعيها تصدى البيان للمشروعات القومية، والصناعة، والتجارة الخارجية، والبيئة، والنقل، والمرور، غير أن الحيز لا يسمح بتناولها. تبقى صياغة البيان والاتساق فيها واللغة. الشعب أكبر من أن يوصف، سواء كان هذا الوصف «بالعظيم» الذى يتكرر فى البيان ــ وفيما عدا البيان ــ أو بغيره من الأوصاف. التكرار أفقد الصفة كل أثر لها، فضلا عن أن لا ضرورة لها أصلا، فخدمة الشعب فرض على الحكام بصرف النظر عن أى صفة له. ثم لا بد من الاتساق وبناء النص بناء منطقيا. هل يمكن أن يكون الهدف الثانى للحكومة هو «ترسيخ البنية الديمقراطية لمصر الحديثة وتدعيمها»، ثم بعدها بأربع وعشرين سطرا يقول البيان إن «لدينا بناء ديمقراطيا مكتملا وراسخا»! مثال آخر هو ما يشير إليه البيان من أن مسيرة العمل الوطنى تستكمل «عبر برنامج سياسى وأمنى واجتماعى متكامل» ثم تكون الكلمة التالية هى أن البرنامج «لن يكتمل إلا بتضافر جهودنا...». كيف يكون البرنامج متكاملا وفى نفس الوقت هو ناقص الاكتمال؟! وأخيرا فإنه لا بد ان يتنبه المصححون اللغويون إلى أنه لا يصح لهم أن يتركوا أخطاء نحوية فى بيان يلقيه رئيس وزراء مصر، لأن لهذه الأخطاء انعكاسات على مكانة بلادنا ونظرة الشعوب العربية لها.
عودة إلى مضمون البيان، فإن قارئه يخرج باستنتاج هو أنه بدون المنظور السياسى لمعضلات الحياة العامة فى مصر، وهو منظور يستدعى التعددية فى الرأى والتنظيم، والنقاش المفتوح، وإعلان الاختيارات، وتحمل المسئولية عنها فإنه لا حلول لمشكلاتنا. الخلاص ممكن والشعب جدير به، ولكنه لن يتحقق إلا بالسياسة الحقة وبالحرية والديمقراطية.