الذكاء الاصطناعى وتداعياته المستقبليّة على الإنسان
العالم يفكر
آخر تحديث:
الخميس 9 مايو 2019 - 11:30 م
بتوقيت القاهرة
نشرت مؤسسة الفكر العربى مقالا للكاتب «نسيب شمس» تناول فيها ظهور مصطلح الذكاء الاصطناعى وتعريفه وأنواعه إلى جانب المميزات والمخاطر التى قد ينتج عنه فى المستقبل.
كَشَفَت الصين عن أوّل مذيع أخبارٍ آليّ يعمل بتقنيّة الذكاء الاصطناعى فى العالَم، حيث يستطيع المذيع المُلقَّب بـ«إى آي» قراءة الأخبار مُستنسِخا قُدرة مقدِّم النشرات الحقيقيّ. وكانت الصين أعلنت فى مايو الماضى عن إنشاء مَحكمة ذكيّة فيها قاضٍ واحد، يُساعده كاتِب ضبط آليّ. وتُعدّ هذه المَحكَمة الأولى التى تعمل بالذكاء الاصطناعى. فالقاضى هو الشخص الوحيد الحاضر فى قاعات المُرافعات، وينسِّق مع المدّعى العامّ والمُحامى والمُدَّعى عليه عبر أجهزة الحاسوب. ويتمّ تسجيل جلسة المُحاكَمة من البداية إلى النهاية من طَرَف رجل آليّ يتمتّع بالقدرة على التمييز بين الأطراف المُتنازِعة واستيعاب لَهجاتهم المُختلفة.
لا شكّ أن البشريّة على أبواب ثورة جديدة ستغيِّر شكل حياة البشر، ثورة عمادها الذكاء الاصطناعى، وتُعَدّ ثورة شاملة على مُختلف المستويات الاجتماعيّة والاقتصاديّة والأمنيّة وغيرها، لأنّ تطبيقات الذكاء الاصطناعى تتفرَّع وتتزايَد بصورة لا يُمكن استيعابها وحصْرها؛ فهى تكاد تدخل فى المجالات الإنسانيّة كافّة. ويُعرَّف الذكاء الاصطناعى على أنّه أحد فروع علوم الكمبيوتر المَعنيَّة بكيفيّة مُحاكاة الآلات لسلوك البشر. وقد قام جون مكارثى بوضْع المُصطلَح (الذكاء الاصطناعي) فى العام 1956، مُعرِّفا إيّاه بأنّه عِلم هندسة إنشاء آلات ذكيّة، وبصورة خاصّة برامج الكمبيوتر؛ فهو عِلم إنشاء أجهزة وبرامج كمبيوتر قادرة على التفكير بالطريقة نفسها التى يعمل بها الدماغ البشرى، وتتعلَّم مثلما نتعلَّم، وتُقرِّر كما نُقرِّر، وتتصرَّف كما نتصرَّف.
ولمّا كان الذكاء الاصطناعى عبارة عن أنظمة كمبيوتر تُحاكى الإنسان أو البشر فى تصرفاتهم، فهذا لا يعنى أنّ أى قطعة برمجية تعمل من خلال خوارزميّة مُعيّنة، وتقوم بمَهامٍّ مُحدَّدة يُمكن اعتبارها ذكاء اصطناعيّا. ومن أجل أن نُطلق هذا المُصطلح على نظام كمبيوتر، يجب أن يكون قادرا على التعلُّم، وجمْع البيانات وتحليلها، واتّخاذ قرارات بناءً على عمليّة التحليل هذه، بصورة تُحاكى طريقة تفكير الإنسان.
أنواع الذكاء الاصطناعى
يُمكن تقسيم أنواع الذكاء الاصطناعى إلى ثلاثة أنواع رئيسة تبدأ من ردّ الفعل البسيط وصولا إلى الإدراك والتفاعُل الذاتى، وذلك على النحو التالى:
1ــ الذكاء الاصطناعى الضيّق أو الضعيف: هو من أبسط أشكال الذكاء الاصطناعى، وتتمّ بَرمجته للقيام بوظائف معيّنة داخل بيئة محدَّدة، ويُعتبر تصرّفه بمَنزلة ردّة فعل على مَوقف مُعيَّن، ولا يُمكن له العمل إلّا فى ظروف البيئة الخاصّة به، مثلا: «الروبوت ديب بلو»، الذى ابتكرته شركة IBM، وقامَ بلعْب الشطرنج مع بطل العالم غارى كاسباروف وهَزَمه.
2ــ الذكاء الاصطناعى القويّ أو العامّ: يَمتاز بالقدرة على جمْع المعلومات وتحليلها وعلى مُراكَمة الخُبرات من المَواقف التى يكتسبها، والتى تؤهِّله لأن يتّخذ قرارات مستقلَّة وذكيّة، مثل روبوتات الدردشة الفوريّة، والسيّارات ذاتيّة القيادة.
3ــ الذكاء الاصطناعى الخارِق: ما زالت أنواع الذكاء هذه قيد التجارب وتسعى إلى محاكاة الإنسان، ويمكن التمييز بين نمطين أساسيَّين منها: الأوّل يحاول فَهْم الأفكار البشريّة، والانفعالات التى تؤثِّر فى سلوك البشر، ويملك قدرة محدودة على التفاعُل الاجتماعى. والثانى هو نموذج لنظرية العقل، حيث تستطيع هذه النماذج التعبير عن حالتها الداخلية، وأن تتنبّأ بمَشاعر الآخرين ومَواقفهم وأن تتفاعل معها؛ إنّها الجيل المُقبِل من الآلات فائقة الذكاء.
تداعيات الذكاء الاصطناعىّ
قام الجدلُ حول الثورة التى سيُحدثها الذكاء الاصطناعى، ولاسيّما أنّ هذه الثورة أكبر من قدرة البشر على استيعابها حاليّا. وقد انقسمت آراء الخبراء حول الذكاء الاصطناعى إلى قسمَين رئيسَين: قسم رأى أنّه يُحسِّن حياة الأفراد ويَجعلها أكثر سهولة، كما صرَّح «مارك زوكربيرغ» رئيس ومؤسِّس مَوقع الفيس بوك. أمّا القسم الآخر فعبَّر عن مَخاوفه من التداعيات السلبيّة للذكاء الاصطناعى على حياة البشر، وغالى أصحاب هذا الرأى فى تشاؤمهم إلى حد الذى جعل رئيس ومؤسِّس شركات «نسلا وسباس أكس» و«أيلون موسك» يتنبّأ بأنّه سيؤدّى فى نهاية الأمر إلى نشوب حربٍ عالَميّة؛ فى حين ذهبَ عالِم الفيزياء الكبير «ستيفن هوكينغ» إلى القول إنّ تطوير ذكاءٍ اصطناعى كامل قد يُمهِّد لنهاية الجنس البشري، ما يعنى بحسب هذين الموقفَين المتناقضَين: إمّا سعادة البشريّة أو دمارها.
لم يقتصر القلق على شركات التكنولوجيا والخبراء والعلماء، بل طاول قادة الدول والسياسيين، عندما أكَّد الرئيس الروسى فلاديمير بوتين أنّ «الذكاء الاصطناعى هو المستقبل ليس بالنسبة إلى روسيا فحسب، بل بالنسبة إلى الإنسانيّة بأسرها.. هناك إمكانيّات ضخمة ولكنْ هناك أيضا مَخاطِر عديدة اليوم.. والذى سيُصبح قائدا فى هذا المجال سيكون الحاكم فى العالم». غير أنّ بوتين نبَّه وحذَّر فى الوقت ذاته من مخاطر الذكاء الاصطناعى، لكونه ثورة تكنولوجيّة لها مميّزاتها، بقدر ما لها تهديداتها؛ فاختراع الطائرات مثلا، يُمكن أن يجعل حياة البشر أسهل وأسرع، كما يمكنه أن يقضى على هذه الحياة عبر توظيف هذا الاختراع للقتل والإبادة.
المخاطر العسكرية والأمنيّة للذكاء الاصطناعى
توفِّر نُظم الذكاء الاصطناعى مميّزات متعدِّدة للقوّات العسكريّة، من حيث تحقيق الكفاءة والفاعليّة فى ساحة المعركة، والحفاظ على الأرواح البشرية وحمايتها، فضلا عن مكافحة الإرهاب والتنبّؤ بالتهديدات المستقبلية. ولكن لهذه النظم فى الوقت نفسه مخاطر وتداعيات عدّة على الأمن القومى، من أبرزها:
أولا: نشوب سباق تسلح فى مجال الذكاء الاصطناعى العسكرى: حيث شرعت الدول الكبرى، وبخاصّة الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا الاتّحادية والصين فى تطوير تطبيقات متعدِّدة للأنظمة العسكرية التى تعتمد على الذكاء الاصطناعى. ولا يتوقف الأمر عند تطوير هذه النُّظم، بل يتعداه إلى دخول الدول فى سباق تسلّح حولها، كما فى سباق التسلُّح الأمريكى ــ الصينى فى تطوير أسراب الدرونز الطائرة. كما يمكن للذكاء الاصطناعى أن يلعب دورا تصعيديّا فى التفاعُلات الصراعيّة بين الدول، فى حال أخذنا فى الاعتبار صعوبة تحديد هوية الطَّرف القائم بشنّ الهجوم، سواء فى العمليات العسكرية الواقعيّة (من خلال طائرات الدرونز) أم فى مجال السبيرانى، وهو ما قد يجذب الدول إلى التوسُّع فى الاعتماد عليها، مع ما يترتَّب عن ذلك من تصعيدٍ للصراع بينها، أو يدفع دولة ما إلى استخدامها لاختلاق أزمة بين دولتين أخريين.
ثانيا: التوظيف الإرهابى للذكاء الاصطناعى من قبل الفواعل من دون الدول: بحيث استفادت الجماعات الإرهابيّة من التطبيقات المُختلفة للذكاء الاصطناعى ووظَّفها لأغراضٍ إرهابيّة. فإقدام «داعش» على تطوير درونز واستخدامها فى تحميل موادّ متفجّرة، يشكِّل دليلا واضحا فى هذا الإطار، ناهيك بالاستفادة منها فى أعمال التجسُّس والتعقُّب والرقابة ورصْد الأهداف، وفى عمليّات الاغتيال، ولاسيّما أنّ أنظمة الذكاء الاصطناعى تجعل عمليّات الاغتيال هذه أكثر دقّة، إذ تمَّ بناء درونز تعمل بأنظمة «التعرُّف إلى الوجه»، لتحديد وجه الشخص المُراد تصفيته، وشنّ اغتيالات بصورة يصعب اقتفاء آثارها.
ثالثا: احتماليّة اختراق نظم الذكاء الاصطناعى: إذ يُمكن للهجمات السبيرانيّة أن تخترِق نُظم الذكاء الاصطناعى العسكريّة، بحيث يُمكن للجهة المُهاجِمة فى بعض الأحيان أن تُسيطِر على أحد الروبوتات العسكريّة، وإعادة توجيهها، ما يُلحق الأضرار بالأفراد أو بالمُنشآت التى ليست فى دائرة الاستهداف أساسا. رابعا: إمكانيّة خداع نُظم الذكاء الاصطناعى: حيث برزَ توجّهٌ لدى الأجهزة الأمنيّة فى الدول الغربيّة للاعتماد على نُظُم الذكاء الاصطناعى فى رصْد التهديدات التى تُواجِه الأمن القومى للدولة وتحديده، والتنبّؤ كذلك بالتطوّرات التى يُمكن أن تحدث حول العالَم مثل الثورات أو الاضطّرابات الاجتماعيّة. لكنْ، فى حال نجاح الدولة المُعادية فى تحديد كيفيّة عمل هذه الأجهزة، فإنّه يسهل عليها بالتالى خداعها من خلال نشْر أخبار كاذبة، لتضليلها وقيادتها إلى استنتاجات خاطئة.
خامسا: اختراق المجتمعات: حيث يُمكن لدولة أجنبيّة أن تَستخدم نُظم الذكاء الاصطناعى للتعرُّف إلى الأفكار والتوجّهات السياسيّة والاجتماعيّة لأفراد الدولة المُناوِئة لها على مَواقِع التواصل الاجتماعى، ومُحاولة الربط بين الجماعات المُنعزلة جغرافيّا، والتى تتبنّى أفكارا وتوجّهاتٍ مُشابهة، ودفعها إلى تبنّى مَواقف سياسيّة معارضة قد تهدِّد الأمن الوطنى والقومى لهذه الدولة.
ماذا عن المُستقبل؟
منذ العام 2000 تضاعف عدد الشركات الكبرى والنّاشِئة العامِلة فى مجال الذكاء الاصطناعى حوالى 14 ضعفا، وتضاعفَ الاستثمار فى هذا المجال 6 مرّات، وتزايد عدد الوظائف التى تتطلَّب مهارات ذكاء اصطناعى منذ العام 2013 حوالى أربع مرّات ونصف. لكنْ، بقدر ما أظهرَ الذكاء الاصطناعى تقدّما تقنيّا كبيرا منذ ذلك التاريخ، ازداد على مدى السنوات الخمس الأخيرة فى مجالات حياتيّة متعدِّدة، فنتجَ عن ذلك إيجابيّات كثيرة مثل التطوّر الصحّى، وزيادة الأمان البيئى والبشرى، فضلا عن فُرص عمل مُختلفة، وغير ذلك من الإيجابيّات، إلّا إنّ هذا الانتشار أدّى فى المقابل إلى زيادة معدّلات البطالة، وإلى عدم دقّة البيانات وما شابه.
أمّا فى المستقبل، ولأنّ الذكاء الاصطناعى سيكون قادرا على القيام بوظائف متعدّدة على المستوى الشخصى فى حياتنا اليوميّة، وعلى مَعرفة الثغرات الموجودة فى الأجهزة الذكيّة واكتشافها وإصلاحها، ورصْد أيّ مُحاوَلة اختراق أو قرْصَنة والتنبُّه لها والتعامل الفوريّ معها، ولأنّه سيكون قادرا على إدارة شئون المنزل كافّة من التعرُّف إلى الزوّار واستقبالهم، إلى التنبيه إلى خطرٍ ما، مثل الحريق أو تعرُّض طفلٍ صغير للسقوط أو تعرُّض منزلٍ ما للسرقة، فضلا عن قيامه بإعداد القهوة لصاحب البيت وزوّاره، وطَلَبْ حاجيّات المنزل من السوبر ماركت وتأمين وصولها بصورة آليّة، وقيادة سيّارتنا، والتعرُّف إلى حالتنا النفسيّة والمزاجيّة والتفاعل معها، وترشيح المُنتجات التى تُناسب ذوقنا واهتماماتنا، والمكان الذى سنَجدها فيه، لا بدّ من منظومة تنظيميّة وأخلاقيّة تَحكم عمل الذكاء الاصطناعى، وحماية الوظائف التى سوف تتأثَّر جرّاء عمليّة الأتمتة الذكيّة، وصياغة قوانين تَضمن حقوق البشر الأساسيّة.
النص الأصلى