العالم بين مطرقة الانكماش وسندان التضخم الجزء الأول: الانكماش

محمد الهوارى
محمد الهوارى

آخر تحديث: السبت 9 مايو 2020 - 8:55 م بتوقيت القاهرة

فى الشهرين الماضيين، بدأت تظهر معالم رد فعل الحكومات والبنوك المركزية للأزمة الاقتصادية التى فرضها فيروس الكورونا، ورغم أن المرض ما زال ينتشر والتعامل معه ما زال فى مرحلة التطور، نستطيع الآن أن نستقرئ بصورة معقولة شكل العالم فى السنوات القادمة. نتوقع أن يمر العالم بمرحلتين رئيسيتين، يعتمد عمق كل منهما ومدتها فى المقام الأول على عمق تأثير المرض على المجتمع العالمى وعلى طول فترة انتشاره، وحيث إن المرحلتين بهما أفكار مهمة ودسمة، قررت أن أقسمهما على مقالين حتى يكون لدى القارئ فرصة لاستيعاب أفكار وتأثيرات كل مرحلة على حدة مع إنهاء الجزء الثانى من المقال بأهم الاستنتاجات، فى هذا الجزء من المقال نتكلم عن المرحلة الأولى وهى الانكماش وهو ما يعرف بالإنجليزية بكلمة Deflation، ونستطيع مجازا أن نعتبره عكس التضخم Inflation.
يمر العالم حاليا بفترة انكماشية واضحة المعالم؛ حيث تهبط أسعار الكثير من السلع والخدمات مع انهيار الطلب عليها، أظن العالم كله سيتذكر اللحظة التى ما كان أعتى كتاب الكوميديا العالمية يتجرأون على كتابتها عندما أصبح سعر البترول العالمى بالسالب أى أن المشترى يحصل على برميل البترول ويحصل أيضا على مبلغ يصل إلى ٣٥ دولارا أمريكيا على كل برميل، قد يظن البعض مخطئا أن هبوط الأسعار شىء جيد ولكن تخيل معى عزيزى القارئ مثلا أنك قررت أن تبنى بيتا فى وقت تهبط فيه أسعار مواد البناء يوما بعد الآخر، حتما ومنطقيا ستؤجل قرار البناء شهرا بعد شهر لكى تستفيد من انخفاض التكلفة، فإذا أصبحت هذه حالة عامة فسيتحول الاقتصاد للركود ويدخل العالم فى دوامة Downward Spiral تنتهى بكساد اقتصادى مثل الذى شهده العالم عام ١٩٢٩، وبينما تدخلت البنوك المركزية العالمية لمنع تكرار مأساة ١٩٢٩ فنحن بالتأكيد نعيش حاليا هذه المرحلة الانكماشية المتوقع استمرارها فترة غير قصيرة؛ مع بعض الاستثناءات التى ستحدث بسبب التغييرات العنيفة فى سلاسل القيمة وسلاسل التوريد Supply and Value chains والتى قد تؤدى إلى تضخم انتقائى فى أسعار بعض السلع والخدمات.
يزيد على الظروف الاستثنائية العالمية عاملان مهمان قد يجعلان الظروف الانكماشية أكثر عنفا وهى:
١ــ ارتفاع معدلات الديون عالميا: أنهى العالم عام ٢٠١٩ فى أعلى معدلات الديون العالمية كنسبة من الناتج المحلى وخاصة للدول والشركات (وليس للأشخاص بعكس أزمة ٢٠٠٨) وكذلك حجم نمو ضعيف للاقتصاد بالرغم من السياسات التوسعية العنيفة التى أنتهجتها الدول المتقدمة، هذه الهشاشة الاقتصادية تجعل العالم أكثر تأثرا خاصة عندما يضرب الفيروس آخر وأهم دافع للاقتصاد فى السنوات الأخيرة وهو معدل صرف المستهلكين الذى يتأثر سلبا بالبطالة العنيفة وباتجاه المستهلك لزيادة مدخراته لمواجهة الصعوبات القادمة.
٢ــ الطبيعة الانكماشية للتطور التكنولوجى الهائل: وهذه نقطة مهمة جدا نبه إليها أخيرا رجل الأعمال الكندى جيف بوث فى كتابه «ثمن الغد» The Price of Tomorrow، يقول الكاتب ببساطة إن التطور التكنولوجى الهائل الذى يشهده العالم منذ عشرين عاما انكماشى بطبيعته، وهو يضرب على ذلك مثال شركة «بلوكباستر» الأمريكية لنوادى الفيديو وهى شركة كانت تؤجر شرائط الفيديو وكانت منتشرة فى ربوع الولايات المتحدة والعالم ووصل عدد فروعها فى قمة مجدها عام ٢٠٠٤ إلى تسعة آلاف فرع فى الولايات المتحدة فقط، وكان لديها ٨٤٣٠٠ موظف فى العالم منهم ٥٨٥٠٠ موظف فى الولايات المتحدة، هذه الشركة اليوم انهارت وحلت محلها شركات تكنولوجيا مثل «نتفليكس» التى توظف ٦٧٠٠ موظف يعملون من خلال عدد محدود من المكاتب يخدمون من خلالها العالم كله عن طريق الإنترنت، الأثر واضح: فقدان الطلب على ٩٠٠٠ فرع خدمى، فقدان الطلب على ٧٥٠٠٠ وظيفة ونستطيع أن نسترسل فى الأثر بذكر مثلا فقدان الطلب على الانتقالات المطلوبة إلى ومن الفرع وتأثير ذلك على استهلاك السيارات ووسائل المواصلات واستهلاك الوقود إلخ... هذا الانكماش يأتى من تطور طبيعى Organic وقد يفسر وحده سبب عدم تغول التضخم فى العالم خلال السنوات العشر الماضية بالرغم من السياسات التوسعية التى انتهجتها الحكومات والبنوك المركزية العالمية فتأثير التكنولوجيا الانكماشى تمت مواجهته بسياسات توسعية غير صحية أسفرت عن نمو ضعيف نتج عنه حالة العالم اليوم وجعلته مستعد لموجة تصحيحية إما عنيفة أو طويلة أو كلاهما.
بين الانكماش والتضخم يبدو الانكماش هو الخطر الأكبر حاليا وهو الخطر الذى أجمع عليه جميع الاقتصاديين فمنهم من يرى أن الانكماش سيتولد بعده تضخم وسيصل لدرجة خطرة ومنهم من يرى الانكماش مستمر لفترة طويلة، المرجح فى رأيى أننا سندخل مرحلة تصحيحية ستكون فى معظمها انكماشية ويتخللها مراحل تضخم انتقائى نتكلم عنها فى الجزء الثانى من المقال، كذلك سننهى المقال بأهم الاستنتاجات من بحثنا هذا فإلى الأحد القادم.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved