وبعدين شو صار..؟
تمارا الرفاعي
آخر تحديث:
الجمعة 11 يونيو 2021 - 7:26 م
بتوقيت القاهرة
تطلب ابنتي قصة ما قبل النوم كل ليلة، جزئيا كمحاولة أخيرة منها أن تسرق بعض الوقت مني ومن الأسرة، ولأنها ما زالت في عمر يستمع فيه إلى قصص أألفها بتلقائية وتسألني أسئلة عن التفاصيل التي أحكيها دون أن تتوقف عند الصورة الكبرى. أصلا لا صورة كبرى في قصصي التي أألفها وأنا أحكيها، لذا فهي تسأل عن أسباب بعض التطورات في السرد دون أن تلتفت إلى مغزى نبيل أود أن أوصله إليها أو حتى إلى عبثية وعدم ترابط ما أرويه أحيانا
••
كل ليلة، حين نصل إلى ما أظنه نهاية القصة، ترفع ابنتي وجهها نحوي فيكاد أن يختفي في رقبتي لتسأل: "وبعدين؟ شو صار؟" كل مرة أتفاجأ بعدم قبولها بالنهاية كما أعددتها وبانتظارها للمزيد. أسألها بدوري عما تظنه قد يحدث، فتأخذ هي دور الحكواتي وتقص علي أحداثا كما تتخيلها. أستمع إلى خيال الصغيرة لأجده أكثر حرية من خيالي، فهي ما زالت بحكم عمرها قادرة على التعبير دون فلاتر كثيرة مما ستكتسبها دون شك في مراحل عمرها المختلفة حتى لو حاولت، كما حاولت من قبلها، أن تنتقي منها ما تريد فعلا الالتزام به وما تقرر أن ترميه
••
"وبعدين؟ شو صار؟" للقصص دوما بقية، هذا ما تعلمته في سهراتي مع ابنتي. للقصص بقايا تطاردني أينما ذهبت. بقايا تحدث فعلا في أقل الأوقات توقعا أو بقايا متخيلة أحبكها في الليل حين يهجرني النوم فتلاحقني الأشباح. سؤال "ماذا لو؟" مجحف وقاس كالسوط، يضرب القلب والذاكرة فأسمع صوته يخترق رأسي ليحكي، كما أحكي لصغيرتي كل مساء، نهايات مختلفة لقصص ظننت أنني طويت صفحاتها
••
ماذا لو لم تحدث العشر سنوات الأخيرة ولم تستيقظ المنطقة العربية على هتافات ظننت حينها أنها جلبت معها الربيع؟ ماذا لو أتى الربيع فعلا ولم تغرق بلدي وبلاد أخرى من قبلها بالدم؟ ماذا لو اخترت أن أشق طريقي في اتجاه مختلف أبعدني عن الشأن العام؟ ماذا لو كنت من بلد في الشمال أدفع فيه الضرائب وأطالب البلدية بأن تقدم لي مقاعد أكثر راحة في الحدائق العامة؟ ماذا لو لم ألتق بزوجي؟ ماذا لو ارتبطت بشخص من بلاد مختلفة عن بلادي فشاركته نقاشات عن الأحزاب الجديدة والقديمة وعن فضائح السياسيين المرتشين من أصحاب المال أثناء حملاتهم الانتخابية؟ أو ماذا لو لم أتزوج أصلا وكنت رسامة وقعت بغرام أستاذ في الفلسفة في موسكو؟ لماذا موسكو؟ لا أعرف سوى أن ثمة مدن تفرض على من يتخيلها هوية فيها الكثير من الثقافة والتعقيد الفكري، موسكو أو برلين تعطيني هذا الشعور فأسأل نفسي ماذا لو
••
من الصعب التوقف عن محاولة استبيان المستقبل، لا سيما في عمر كعمري أصبح الآن أشبه بجسر بين جيلين، حبل يربط مرحلتين، سنوات تفصلني عن مرحلتي القادمة، مرحلة "وبعدين؟ شوصار؟" بعدين أريد أن أحكي وأكتب وأفهم أكثر ما حدث اليوم. أريد تفسيرات منطقية لحالة الفوضى التي أراها في العالم من حولي. ربما بعدين سوف يظهر ما أراه اليوم على أنه تطور طبيعي أرفضه اليوم إنما ستساعدني حكمة السنين في المستقبل أن أتفهمه وأرى فيه منطقا حتى إن لم يعجبني. تماما كما هو الحال مع أبي وأبناء جيله حين أناقشهم في تطورات الستينيات وما بعد مفهوم الأمة العربية، وهو مفهوم كانممنوع علي أن أشكك به في سنوات شبابي، إذ كان والدي وأبناء جيله ممن اعتنقوا القومية العربية كعقيدة في ظل إيمانهم بإمكانية فرد النفوذ والكرامة من المحيط إلى الخليج. يبدو لي أن حماسهم قد خف كثيرا منذ تلك الفترة ومع تعاقب الخيبات وتفتت الأمة.
••
حكمة السنين تلك أنتظرها بفارغ الصبر علها تنتشلني من أسئلة لا تنتهي حول ما كان بإمكان جيلي أن يفعله وما غلطنا به. تماما كما لاحقت الأسئلة الصعبة جيل والدي بعد النكسة. حكمة السنين قد تساعد ابنتي أيضا في المستقبل أن تعيد النظر في قصص رويتها لها قبل النوم وتفهم أن تفاصيل كثيرة كنت أستوحيها مما حولي لكنها لم تفهمها في وقتها. للقصص دوما بقية، للنهايات دوما أبواب مواربة من الممكن دفعها قليلا للسماح بتغييرات. تأتي مع كثير من النهايات برأيي مساحة أستطيع أن أمحو بواسطتها بعض السطور وأعيد كتابتها دون أن أخجل، هذا أيضا يأتي مع حكمة السنين: أن أتخلص من بعض الخجل الذي لطالما غلف تعاملي مع الأمور رغم ادعائي أنني تحررت منها
••
وبعدين؟ شو صار؟ بعدين تصالحت مع أمور وتقبلت غضبي المستمر من أمور أخرى. بعدين تمنيت لو أن لي أطفالا ستة لأمضي أكثر من خمس عشرة سنة أحكي فيها قصصا قبل النوم وأتعلم أن أرد على أسئلة تلقائية بكلمات بسيطة تمسك بها الطفلة قبل أن تنام وتحيك قصتها فيما بعد. ثم تتذكر أنها حين كانت في السادسة من عمرها كانت آخر كلمات تتفوه بها كل ليلة وهي في حضن أمها هي "وبعدين ماما شو صار؟"