منهج للحوار الوطنى
إبراهيم عوض
آخر تحديث:
السبت 9 يوليه 2022 - 7:20 م
بتوقيت القاهرة
باختيار أعضاء مجلس أمنائه ثم بانعقاد أولى جلسات هذا المجلس يوم الثلاثاء الماضى 5 يوليو يمكن اعتبار أن الحوار الوطنى فى سبيله لأن يبدأ. البعض أبدى تشككه فى الغرض من الحوار وجدواه. التعبير عن هذا التشكك من حق كل مواطن. غير أن استعراضا للقوى التى تجد لها ممثلين فى مجلس أمناء الحوار، ولتلك التى تنشد المشاركة فيه، يبيّن أن أغلبية القوى السياسية تقبل فكرته وهى مستعدة لخوض تجربته.
تناولت هذه المساحة من الشروق فى عدد 14 مايو الماضى ممارسة الحوار فى الأنظمة السياسية المختلفة، باعتباره جوهر السياسة، ثم أبدت بعدد من التعليقات على منهجه. مقال اليوم عن الحوار يتصدى من جديد لمنهجه بتفصيل أكبر، لعله يكون مساهمةً مفيدة، وينتهى بمخاطبة المعارضة بشكل خاص. أحسن المنسق العام للحوار بالإعلان يوم الثلاثاء الماضى عن أنه سيجرى اعتماد لائحة للحوار وهو ما يبدو أنه لقى استحسانا وكان من أعضاء مجلس الأمناء من طلب الحصول عليها، أو على مسودة لها، لدراستها استعدادا لمناقشتها. مثل هذه اللائحة ضرورية تماما لأنها، فى حدها الأدنى، تضبط سير المناقشات وتحول دون أن يسود إدارتها الارتجال وتعمها الفوضى. ليس معروفا فيما يفكر القائمون على الحوار فى أن يضمنوه اللائحة. غير أنه يمكنهم أن يوسعوا فى مفهوم اللائحة لكى تشمل، فضلا عن قواعد إدارة المناقشات، منهج الحوار برمته، بعناصره المختلفة. المداخلات فى الجلسة الأولى لمجلس الأمناء تناولت بالفعل بعضا من هذه العناصر التى يحسن ترتيبها فى وثيقة متسقة متجانسة لعلها تكون اللائحة.
• • •
أول عناصر المنهج هو تحديد الهدف من الحوار. هذا الهدف ليس واضحا حتى الآن وبعد أكثر من شهرين من نشأة فكرته. هذا الحوار ينعقد خارج المؤسسات الدستورية وهو بذلك حدث استثنائى، وعليه فإن هدفه يجب أن يكون متناسبا مع طبيعته الاستثنائية. لا بدّ أن يكون الهدف من الحوار تنشيط النظام السياسى المصرى، أو ما يسميه كثيرون الإصلاح السياسى، ليستوعب هذا النظام كل القوى السياسية واجتهاداتها وأفكارها. قد يكون خلق مساحات مشتركة بين أطراف الحوار هدفا وسيطا له قيمته، ولكن هذه المساحات فى حد ذاتها وسيلة يتوسلها أطراف الحوار للوصول إلى تحقيق هدفه المحدد. تنشيط النظام السياسى بالشكل الذى يمكنه من التصدى بابتكار وكفاءة وفاعلية للقضايا التى تعرض للمجتمع والدولة فى مصر يمكن أن يكون هذا الهدف، فإن كان، تصبح طبيعة الحوار بديهية وهى أنه حوار سياسى. يمكن أن يطلق عليه «الحوار الوطنى»، ولكن صفة «الوطنى» تحتاج إلى تفسير حتى لا يتصدى الحوار للموضوعات الهامة والأقل أهميةً فتتشعب المناقشات وتميع. الحوار السياسى المركَّز بشأن تنشيط النظام السياسى هو اللبُّ المطلوب للحوار الوطنى. والنظام السياسى المقصود هو النظام بمعناه الواسع الذى لا يقتصر على السلطات الدستورية بل يشمل أيضا الأحزاب السياسية ومؤسسات المجتمع المدنى التى تشترك فى تغذية السياسات بأفكارها ومطالبها، حتى وإن لم يكن من طبيعتها أن تشارك مباشرة فى السياسة أو تتطلع للوصول إلى السلطة.
ثمة شعور لدى القائمين على الشأن السياسى والمتابعين له بأن الأطر الدستورية الحالية ليست كافية لمناقشة عدد من القضايا الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وليس السياسية وحدها. لا بأس إذن من أن يناقش الحوار هذه القضايا وأن يحللها وأن يحدد فيما تتوافق آراء أطرافه بشأنها وفيما تختلف، ولكن فى مرتبة تالية لتنشيط النظام السياسى، وعلى أن تتناول المناقشة عددا محدودا منها. المنهج، كما سيرد فى اللائحة، يمكن أن يحدد هذا العدد المحدود من القضايا على أن يترك ما عداها لمؤسسات النظام السياسى بعد تنشيطه.
• • •
تنشيط النظام السياسى يمرّ عبر تفعيل مواد الدستور الصادر فى سنة 2014، وهو ما يحتاج إلى التطبيق الفعلى والكامل لمواده، مثل تلك الخاصة بالتعددية السياسية والحزبية التى يقوم عليها النظام السياسى، وبالإنفاق على كل من الصحة التعليم والبحث العلمى، والواردة فى الباب الثالث الخاص بالحقوق والحريات والواجبات العامة، وبنشأة مؤسسات نص عليها الدستور ولم تنشأ بعد مثل مفوضية مكافحة التمييز. تنشيط النظام السياسى يستوجب أيضا أول ما يستوجب تغيير القانون الانتخابى لكى يصبح مجلسا البرلمان، ومعهما المجالس المحلية بعدما تنعقد انتخاباتها، ممثلة مخلصة لأطياف المجتمع، وهو ما لا يسمح به القانون الحالى. ويمكن للحوار أن يناقش كيفية توجيه السياسات العامة لتنشيط النظام السياسى وتفعيل نصوص الدستور وروحه.
تحقيق الهدف من الحوار، أى تنشيط النظام السياسى، والقضايا الأساسية المعدودة التى سيناقشها تحدد معا أطراف الحوار. من هى القوى السياسية والمجتمعية المنظمة التى تدعى للمشاركة فيه؟ رئيس الأمانة الفنية للحوار تحدث فى الجلسة الأولى لمجلس الأمناء عن عشرات الآلاف من الاقتراحات والأوراق التى تلقتها الأمانة من المواطنين. الاقتراحات والأوراق يؤخذ منها فقط تلك المتعلقة بالهدف من الحوار وبالسياسات التى سيناقشها، مع كل الاحترام لما عداها من اقتراحات وأوراق ولقيمتها. المشاركون فى الحوار هم ممثلو المؤسسات الوسيطة فقط وعلى رأسها الأحزاب والتآلفات السياسية، وكذلك منظمات المجتمع المدنى المعنية. ممثلو هذه المنظمات الأخيرة تكون مشاركتهم فى مناقشة القضايا الأساسية التى تتعلق بمصالح منظماتهم وأعضائها. عند مناقشة تنشيط النظام السياسى والقضايا المحددة، يمكن دعوة خبراء وأكاديميين للاستعانة بمعرفتهم وخبرتهم دون اعتبارهم أطرافا أصليين فى الحوار إلا إن كانوا يمثلون أحزابا أو منظمات مجتمعية مشاركة. المهم هو عدم القفز فوق المؤسسات الوسيطة. هذا القفز هو السبيل المعروف إلى الشعبوية والسلطوية. ينبغى تدعيم المؤسسات الوسيطة وتعزيز شرعيتها. بذلك يكون الحوار هو نفسه تنشيطا للنظام السياسى.
• • •
تصدينا للقضايا السياسية فى معرض تنشيط النظام السياسى. تبقى القضايا الاقتصادية والاجتماعية والثقافية المحددة ومنها على سبيل المثال الدين العام الداخلى والخارجى، وسياسة الاقتراض، ووثيقة ملكية الدولة، والتعليم، والبحث العلمى، وفتح وسائط الاتصال المكتوبة والسمعية والبصرية لكافة التيارات السياسية وإطلاق حرية التعبير فيها، وحماية المرأة والتحقيق الفعلى للمساواة بين النساء والرجال، وإن كانت هذه القضية تندرج أيضا فى إطار عدم التمييز وتحقيق المساواة بين المواطنين بصرف النظر عن ديانة كل منهم، أو جنسه، أو لونه، أو أصله الاجتماعى أو رأيه السياسى. قضية تراث مصر المتنوع والحفاظ عليه، التى يتناولها الدستور فى الفصل الخاص بالمقومات الثقافية، وهو التراث الذى يعبر عن تاريخ مصر القديم والوسيط والحديث والمعاصر، يمكن أيضا أن تكون من بين قضايا الحوار. وتضاف إلى كل ما تقدم من قضايا، العلاقات الخارجية، الإقليمية والدولية، وهي قضية ذات أولوية للوطن ولقواه السياسية.
ولا بدّ أن يأتى المنهج على مخرجات الحوار. هذه يتفق عليها مجلس الأمناء وهى يمكن أن تتراوح بين سياسات بها إجراءات محددة، والمبادئ العامة التى يجرى سن القوانين أو صياغة السياسات على أساسها فيما بعد.
غير أن من أهم عناصر المنهج الذى ينبغى للائحة المنشودة أن توضحه هو دور مجلس الأمناء. بعد أن يعتمد اللائحة وفيها هدف الحوار وموضوعاته وهيكله، من لجان أو أفرقة للعمل، وخصائص المدعوين إليه، فضلا عن القواعد التى تحكم النقاشات، فماذا سيكون دوره؟ هل يدير الأمناء المناقشات بين أطراف الحوار فى اللجان أو أفرقة العمل ويساعدون على التوفيق بين الآراء المختلفة ثم يصوغون المخرجات؟ أم هل يجمعون آراء المتحاورين فضلا عن الاقتراحات التى ترد إلى الأمانة الفنية ثم يتناقشون هم بشأنها ويصوغون المخرجات؟ فى الحالة الأخيرة سيصبح الحوار الوطنى بين أعضاء مجلس الأمناء وليس بين القوى السياسية والاجتماعية، بينما المطلوب هو الحوار بين هذه القوى.
• • •
تبقى كلمة أخيرة موجهة إلى المعارضة، والمقصود بها تلك القوى السياسية المشاركة فى الحوار والممثلة تمثيلا متواضعا، أو غير الممثلة أصلا فى مجلس النواب، تلك القوى العازمة على نشأة دولة مدنية ديمقراطية حقة، سواء كانت منضوية فى الحركة المدنية الديمقراطية أو لم تكن. نرجو أن تكون هذه القوى قد عكفت فى الفترة الماضية وأن تحرص فى الأسابيع القادمة على التباحث بشأن تنشيط النظام السياسى وقضايا الحوار وأن تصيغ مواقفها فى أوراق متفق عليها حتى تشارك فى الحوار مسلحةً بالمعرفة والتحليلات والاقتراحات. قد تتفق القوى السياسية المدنية الديمقراطية على مبادئ السياسات الاقتصادية والاجتماعية أو بعضها وقد تختلف على إجراءاتها. أما تنشيط النظام السياسى، ودعم التعددية، وترسيخ مدنية الدولة بعدم التداخل بين السياسة والدين، والمساواة بين المواطنين والمواطنات، وضمان الحريات، فهى أبواب تتفق عليها كافة القوى المدنية الديمقراطية ولذلك فإن اتفاقها جميعا على ورقة واحدة بشأنها يزيد من ثقل وزنها ويدعم مواقفها فى الحوار.
الحوار الوطنى يفتح بابا قد يكون مواربا. الباب الموارب قابل لأن يفتح كاملا. على القوى المدنية الديمقراطية أن تحاول جادةً دفع الباب حتى تتسع فتحته، على أمل أن يدخل منها هواءٌ منعشٌ يدفع الدمَ فى عروق النظام السياسى وينشّطه.