نهاية الاستشراق
صحافة عربية
آخر تحديث:
الثلاثاء 9 يوليه 2024 - 7:25 م
بتوقيت القاهرة
بدأ الاستشراق طورَ أفوله منذ تاريخ بعيد يعود إلى نهايات سبعينيات القرن العشرين. حصل ذلك بتأثير عواملَ عدّة تضافرت لإِفقارِ بيئته العلميّة التى نما فيها واستتبّ له الأمرُ والسّلطانُ المعرفى لزمن مديد قارب القرنين. ومع أنّ أعمالًا كثيرة صدرت لكبار الدّارسين الغربيّين للشّرق والإسلام، بين بدايات عقد الثّمانينيات الماضى وبداية القرن الحادى والعشرين، وكان قسم منها كبيرَ الفائدة، إلا أنّ كتّابَها كانوا، على الحقيقة، من مستشرقى سنوات الأربعينيات-السّبعينيات الذين انتهت بوفاتهم حقبة من المعرفة الغربية دعِيت باسم الاستشراق.
وفى اللّحظة التى كانت مجتمعات الغرب وبيئاته السّياسية والأكاديميّة تستغنى فيها عن الاستشراق وعن خدمات المستشرقين، فتكُفّ عن تزويد بيئاتهم بالموارد التى بها تتغذّى أعمالهم، كانتِ الحاجة إلى عمل المستشرقين تتناقص، بالتّدريج، فى العقود الأخيرة فى المجتمعات العربيّة والإسلاميّة ودوائرها الثّقافيّة والأكاديميّة، بعد أن ارتفعت الأسباب التى كانت تدعو إليها فى ماض ليس بعيدًا تمامًا.
لا يخامرُ دارسَ الاستشراق شكٌّ فى أنّ أفوله تولَّد من تأثير عوامل عديدة: معرفيّة وسياسيّة وجامعيّة، متفاوتةِ الأثر. وقد يُخْتَلَف فى شأن بعضها أو يُتّفَق، لكنّ الذى لا مِرْية فيه أنّ بعضَها يظلّ أَظْهَرَ تلك العوامل جميعًا، وقد يكون موْطنَ اتّفاقٍ بين الدّارسين. نشير، فيما يلى، إلى ثلاثة من آكَدِها:
أوّلها: ما كان من تغيُّرٍ طَرَأ فى مشهد المعرفة الغربيّة بالشّرق والإسلام، منذ نحو نصفِ قرن، وأثر ذلك فى الاستشراق ومكانتِه فى تلك المعرفة. بيانُ ذلك أنّ حاجة الدّول والحكومات الغربيّة وأجهزتها (الاستخبارات، الجيش، الجهاز الدبلوماسى) إلى معارف المستشرقين تناقصت مع الزّمن لوفرة ما تُوفِّره لها الأجهزةُ ومراكزُ الدّراسات التّابعة لها من معلوماتٍ ومعارفَ تحتاج إليها سياساتها فى بلدان الشّرق ومنها البلاد العربيّة والإسلاميّة. فى الأثناء، كان المستشرقون يتعرّضون للتّهميش العلمى فى بيئاتهم الجامعيّة، وتوضَع بحوثهم ودراساتهم فى منزلةٍ محطوطة مقارنةً بدراسات علماء الاجتماع والأنثروپولوجيا والسّياسة والتاريخ فى مسائلَ أخرى غير تراثات الشّرق والإسلام. وأمام غَنَاءِ الغرب عن بضاعة المستشرقين المعرفيّة، كان يعتاض عنها بنوع آخَر من «المعرفة» يقدِّمها دارسون غير متخصّصين، بالمعنى العلمى الدّقيق، فى دراسات الشّرق والإسلاميّات، مثل المستشرقين، ولا هم ضليعون فى معرفة اللّغات القديمة وأصول الثّقافات ومصادرها الأساسية الكبرى، بل يملكون قدْرًا قليلًا، وغالبًا سطحيًّا، من المعرفة بتيّارات السّياسة المعاصرة فى بعض مجتمعات الشّرق، ويُطْلَق عليهم، فى الغالب، اسم خبراء.
ثانيها، ينتمى إلى إرادة التّحرر الثّقافى لثقافات الشّرق من الغرب، التى أفصحت عنها النّخبُ الثّقافيّة والعلميّة التى تشبّعت بقيم حركات التّحرّر الوطنيّ فى بلادها. إنّ التّحرّر الثّانى للشّرق من الغرب عَنَى، عند هذه النّخب، تحريره من الهيمنة الثّقافيّة الأجنبيّة. وهذه لا تتجسّد فى هيمنة اللّسان الأجنبيّ وثقافتِه، فحسب، بل فى هيمنة سرديّته الاستشراقيّة فى مجتمعات الشّرق وما ترتَّب عنها من تبعيّةِ فكرِ نخب الشّرق للمسلّمات التى رسَّخها المستشرقون وأعاد تلامذتُهم الشّرقيّون إنتاجها والدّفاع عنها. وفى حالة الدّراسات العربيّة والإسلاميّة، يُلْحَظ جَهْد كبير مبذول فى سبيل التّحرُّر من الرّوايات الاستشراقيّة، من جهة، ومن الاعتماد الكامل على عمل المستشرقين لمعرفة تراثنا من جهة أخرى. ولقد أثمر الجَهْدُ ذاك استعادةَ العرب والمسلمين تراثَهم بأنفسهم، والانكباب العلميّ عليه قصد معرفته وصولًا إلى إعادة إنتاج سرديّةٍ أخرى عنه وكَسْرِ احتكار السّرديّة الاستشراقيّة.
أمّا ثالثُها فعلى علاقة بالتّأهيل العلمى للمعرفة العربيّة الإسلاميّة لتراث الإسلام على النّحو الذى يستقيم به أمرُها، والذى تستقلّ به عن اتّباع المأثور الاستشراقيّ الذى درجت عليه منذ ميلادها الحديث فى القرن التّاسع عشر. وما من شكّ فى أنّ خَطّ التّطوّر اتّجه صعودًا منذ اللّحظة التى كتب فيها محمّد عبده وفرح أنْطُون حتّى اليوم، فتراكمت مكتسباتٌ على الطّريق، وصقَلَتِ التّجارب والدُّربة ورياضة الفكر على ارتياد البعيد، معطوفةً على انتهال مناهج الدّرس من مناهلها، القدرةَ على البحث المسلَّح بالأدوات والموارد المنهجيّة. كان واحدًا من أسباب تَفَوُّق المستشرقين امتلاكُهم مناهجَ درسٍ مختَبَرَة فى ميادين معرفيّة شتّى فى الغرب ويجهلها العرب والمسلمون الذين ربى أكثرُهُم على المناهج التّقليديّة: مناهج الاجترار والشّرح والاختصار. اليوم، ما عاد أحدٌ يمارى فى أنّ المعرفة العربيّة الإسلامية للتّراث والحضارة تحرّرت من هذا العائق، وباتت تحْتاز مواردها المنهجيّة الحديثة حيازةً موكَّدة.
عبدالإله بلقزيز
جريدة الخليج الإماراتية
النص الأصلى: