رهان على السويس
عبد الله السناوي
آخر تحديث:
السبت 9 أغسطس 2014 - 7:40 ص
بتوقيت القاهرة
حدث فى التاريخ مقدمات تفضى إليه وسياقات تحكم حركته وتداعيات تترتب عليه.
لا مشروع تنمية قناة السويس جديدا ولا شق أكبر توسعات فى تاريخها من فراغ.
الدعوة إلى تنمية أكثر الممرات الملاحية أهمية واستراتيجية فى العالم تبناها خبراء مصريون على مدى عقود.
طرحت أفكار ودراسات واستلهمت مشروعات دولية مماثلة غير أنها ظلت رهينة الغرف المغلقة والاجتماعات الضيقة.
قرب نهايات عهد الرئيس الأسبق «حسنى مبارك» أطلقت الدعوة مجددا على نطاق أوسع قليلا فى دوائر ضمت خبراء هندسيين واقتصاديين وشخصيات سياسية وإعلامية.
الفكرة لامعة وعوائدها مؤكدة غير أن طبيعة النظام اعترضتها وتبدت مخاوف توظيف المشروع لعمليات نهب جديدة تنال من المال العام والأمن القومى معا أو أن يكون ميدانا مفتوحا لزواج السلطة بالثروة.
فى أجواء الانتخابات الرئاسية التى أعقبت ثورة يناير علت أحاديث التنمية ورهاناتها وتضمنت برامج المترشحين الرئيسيين للمشروع نفسه.
مع بداية حكم «محمد مرسى» الذى لم يمتد لأكثر من عام استحال التوافق العام حول تنمية محور قناة السويس إلى شقاق وطنى تصاعدت مخاوفه.
الهيئة الاستشارية استقالت وبنية المشروع القانونية اثارت تساؤلا عما إذا كنا بصدد «بيع القناة» لا تنميتها واعترت المؤسسة العسكرية تساؤلا آخر عن مدى خطورة الإجراءات المتبعة على الأمن القومى عند أكثر نقاطه حساسية وخطورة.
مشروع تنمية قناة السويس ملهم بقدر اتساق إجراءاته مع أهدافه وأن تتسع رؤيته لما بعده.
لا كان عهد «مبارك» هو وقته، فمثل هذه المشروعات تتطلب همة وطنية افتقدها ونزاهة حكم لم تكن من طبيعته.. ولا كان عهد «مرسى» صالحا، فمنطق المشروع يتطلب انفتاحا على الوطنية المصرية بارحب معانيها يناقض «التمكين» لجماعته وحلفائها الإقليميين.
لا شىء يلهم المشاعر العامة أكثر من قناة السويس وقصتها تلخص التراجيديا السياسية والاقتصادية والإنسانية لمصر الحديثة.
فى اللحظة التى افتتحت بها القناة التى تعد أهم مشروع هندسى فى العالم بالقرن التاسع عشر باتت مصر رهينة لها حتى تمكنت من تأميمها فى منتصف القرن التالى.
كانت مسألة كرامة وطنية فضلا عن كل الاعتبارات السياسية والاستراتيجية والاقتصادية الأخرى، فالسياط التى ألهبت ظهور المصريين وهم يحفرونها بالسخرة لصالح القوى الكبرى التى تحكمت فى مقاديرها ظلت تهلب الضمير العام لسنوات طويلة. فكرة التأميم لم يخترعها «جمال عبدالناصر» ولا طرأت على رأسه فجأة فقد كانت هناك نداءات سبقت قراره أقرب إلى الأحلام البعيدة والتخيلات المحلقة لكنها كانت ماثلة ومستقرة. رهن الاقتصاد المصرى بسبب القناة وقوض مشروع الخديو «إسماعيل» للالتحاق بالنموذج الأوروبى واحتلت عام (١٨٨٢) وعانت طويلا وثارت كثيرا وعندما أممتها تعرضت لعدوان ثلاثى بريطانى ــ فرنسى ــ إسرائيلى، بنت السد العالى أكبر مشروع هندسى فى العالم بالقرن العشرين وبنت بقدر ما استطاعت مصانع ومدارس ومستشفيات وعمرت الريف ونهضت بالطبقة الوسطى ورفعت ربقة الذل عن العمال والفلاحين. المشروعات الكبرى تقاس بنتائجها السياسية والاجتماعية بقدر ما تقاس بأرقام عوائدها الاقتصادية.
قيمة «عبدالناصر» فى جسارته وقرار التأميم نفسه فاجأ أشد المتحمسين له.
المدخل الوطنى تداخل على نحو مثير مع مدخل التنمية الذى تبلور بتلك اللحظة فى مشروع السد العالى فقد أممت القناة بعد رفض البنك الدولى تمويل السد.
التحدى جلب آخر وبناء السد أدخل مصر إلى عصر التصنيع الثقيل وتخاذل القطاع الخاص حتم بناء قطاع عام قوى وقادر على التنمية والوفاء بمتطلباتها فى نقل مصر إلى عصر جديد.
لهذا الحجم من المشروعات منطقها الداخلى ما أن تبدأ بجدية حتى يتداعى ما يسندها من سياسات وانحيازات وإلا فإنها تجهض وتعجز عن أن تمضى إلى نهاياتها.
لم يكن هناك تخطيط مسبق أن يتلو التأميم سياسات جديدة على المستويين الداخلى والإقليمى، بدأت مصر أكبر عملية تصنيع فى تاريخها واعتمدت على قدراتها الذاتية وجرى التوسع فى التعليم والبناء وتأسست خبرات فنية رفيعة من طبقة البنائين العظام وتصدرت مصر المشهد الإقليمى وبدت عاصمتها القاهرة أحد العواصم الدولية الكبرى.
كانت البداية الحقيقية من السويس حيث موطن الأحلام والمواجع المصرية.
أى استلهام جديد لتجربة السويس بأحلامها وتحدياتها فى تأسيس مشروع قومى جديد تفضى إلى إعادة تشكيل الخرائط السياسية والاجتماعية من جديد.
الرؤى لا تكتسب مرة واحدة لكن تكاملها ضرورى حتى يكتسب المشروع إلهامه. لا يكفى استعادة الأغانى الخمسينية والستينية القديمة لكى نقول إننا أمام إلهام آخر، استعادة إرادة الإنجاز أهم حتى تعوض مصر ما فاتها. لا إنجازات بلا معارك ولا يكفى أن يقول الرئيس «هتدفعوا يعنى هتدفعوا» لكى تتعدل طبيعة العلاقة مع رجال الأعمال المتنفذين.
ليس مهما أن يدفعوا أو لا يدفعوا، المهم أن تكون هناك قواعد تحكم السياسات الاقتصادية تضمن سلامتها وفق معايير الشفافية والنزاهة بلا استيلاء على مال عام أو زواج مع سلطة.
الصدام قد يكون محتما إن لم يستوعبوا درس التاريخ.
فكرة المشروع القومى تقتضى تكامل الرؤى والتصورات والانحيازات، لا أحد يخترع التاريخ لكنه يدخله من جسارة الإنجاز.
لم تكن التوسعات الكبرى فى قناة السويس مدرجة فى مشروع تنميتها لكنها لم تولد فجأة فقد دعا إليها خبراء مصريون منذ الثمانينيات وتوجد دراسات تبنتها.
المشهد الافتتاحى للبلدوزرات والكراكات وهى تتحرك فى الموقع يرفع منسوب الهمة العامة ومستويات الأمل فى تجاوز الأزمات الداخلية الثقيلة.
فى البناء تحدٍ أن يكون جديا والإجراءات سليمة، وأن تبنى حيث الهدم فى المنطقة جارٍ والنيران مشتعلة تحدٍ آخر، وأن تعتمد على قدراتك الذاتية تحدٍ ثالث، ولكل تحدٍ تكاليفه.
مصر تحتاج لأمل جديد يقف على أساس صلب لدولة مدنية حديثة تحفظ أمنها القومى وتواجه العنف والإرهاب وتصون الحريات والقيم الدستورية وتنتسب إلى العدالة الاجتماعية.
تكامل الرؤية مسألة لا مفر منها للتقدم للأمام فالمشروعات القومية قيم ورؤى تقود ومفاهيمها تنضج على وقع البناء.
فى رهانات السويس نحن أمام أبواب جديدة للأمل وأخطار جديدة تنتظرنا، فالأمم لا تتقدم بمعارك مجانية كأنها فى رحلات صيف.